إسرائيل ستتعلم بهذه الطريقة فقط. ليس فقط أن تبرهن عن جرائم حرب ارتكبت في غزة، وإنما أيضا إن كان هناك من سيضطرون لدفع فاتورة الحساب عن أفعالهم إسرائيل تدين بالعرفان للقاضي غولدستون وللتقرير الهام الذي أصدرته لجنته. بعد «وجبة القاذورات التلقائية» التي وجهت لهذا التقرير عبثا، يتكشف لإسرائيل، فجأة، أن من الأجدر بها أن تحقق أخيرا في أحداث عملية «الرصاص المصهور». لماذا؟ ما الذي حدث؟ بدأت الأرض في الاهتزاز تحت أقدام عدد من السياسيين والضباط الإسرائيليين، بصورة شخصية. يتضح أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتعليمنا الدروس والعبر. غولدستون وضع مرآة أمامنا، فحاولنا تحطيمها، كعادتنا. ولكنْ، في هذه المرة وخلافا للتقارير السابقة لم تنجح مهمة التحطيم. فجأة نُشِرَ (ونُفِيَّ) أن وزير الدفاع أوكل إلى أهارون باراك ترؤس لجنة تقص للحقائق. وفجأة، يدعو رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» إلى تبني «الشيفرة الأخلاقية» التي أعدها مع البروفيسور آسا كيشر. وفجأة، يدعو رئيس الوزراء إلى جلسة تشاور عاجلة بهدف تشكيل لجنة تقصي الحقائق. ما الذي حدث؟ يتضح، مرة أخرى، أن كل شيء شخصي. صحيح أن هذه الخطوات قليلة ومتأخرة جدا: لا يكفي تشكيل لجنة تقص للحقائق أو شيفرة أخلاقية، إذ قال صاحبها، قبل عدة أيام في مقابلة مع «معاريف» إن الطبيب الغزاوي عز الدين أبو العيش هو المسؤول عن جريمة قتل بناته – التي ليست أخلاقية- ومع ذلك، من الجيد أن الأرض قد بدأت تهتز من تحت أقدامنا. إيهود براك وجابي أشكنازي يتصببان عرقا؟! إسرائيل ستتعلم بهذه الطريقة فقط. ليس فقط أن تبرهن عن جرائم حرب ارتكبت في غزة، وإنما أيضا إن كان هناك من سيضطرون لدفع فاتورة الحساب عن أفعالهم. هذه بشارة طيبة لإسرائيل: بفضل غولدستون، سيفكرون في إسرائيل مرتين وربما ثلاثا قبل صب متر إضافي واحد من «الرصاص المصهور» على رؤوس السكان المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة. من الآن، لن يكون الاعتبار الوحيد في نظر إسرائيل هو الحد الأدنى من الخسائر في صفوفنا، من الآن سيضعون في الحسبان المترتبات الدولية والشخصية لكل هجمة وحشية. هذا بالضبط دور الجهات الدولية: منع تكرار الهجمات المنفلتة على شاكلة «الرصاص المصهور». غولدستون أدى دوره وعَبْرَ ذلك برهن أيضا على أنه صهيوني وصديق لإسرائيل: بفضله قد تغير إسرائيل طرق عملها القائمة على القوة وستدرس من أجل المستقبل جوانب القانون الدولي والثمن الشخصي الذي سيترافق مع تجاوز هذا القانون. إن كنا قد اعتقدنا، حتى الآن، أن علينا أن نفكر فقط كيف نَقْتُل من دون أن نُقْتَل فعلينا أن نفكر من الآن في الثمن الذي سيترافق مع قتل الناس في الجانب الآخر. خسارة أننا انتظرنا غولدستون، خسارة أننا نعتمد، بهذا القدر، على ضغوط الأجانب حتى نبلور صورتنا، وخسارة أننا نصبح جاهزين لتأمل حقيقة أنفسنا فقط عندما يلوح ضرر شخصي قريبا منا. لو كانت هناك حرب يجدر بنا أن نحقق فيها بمبادرة منا وعلى الفور، فهي عملية «الرصاص المصهور». هذه العملية قد ألحقت بنا خسائر قليلة، ولذلك لم يفكر أحد في التحقيق في مجرياتها، إلا أن ما حدث في غزة لا يمكن أن يبقى معلقا في الفضاء، والمسؤولون لا يستطيعون مواصلة التصرف وكأن شيئا لم يحدث. الجراح في غزة لم تندمل ولم تُشْفَ بعد. والأنقاض لم ترفع من هناك والمنازل لم تعمر. كما أن إسرائيل لم تُشف أيضا: هي ما زالت على قناعة بأن كل شيء قد جرى كما يجب. الآن ظهرت التشققات والتصدعات. هناك شيء جدي مثير للكآبة في حقيقة أن هذا يحدث فقط بعد أن خشي القادة الإسرائيليون على مصيرهم الشخصي. الآن يحذونا الأمل في ألاّ يتنازل غولدستون والأمم المتحدة والعالم. لم يكن أي إسرائيلي يرغب في مشاهدة باراك وهو يعتقل في لندن ولكن كل إسرائيلي نزيه يجب أن يتمنى أن يدفع المسؤولون عن جرائم الحرب التي ترتكب باسمه الثمن، ومن الأفضل أن يحدث ذلك في البلاد. التعليل الديماغوجي الفارغ الذي يسوقه إسرائيليون كثيرون إذ يقولون إن إسرائيل قد فعلت في غزة ما يفعله الجميع، قد يكون صحيحا، إلا أنه مشوه بالمنظور الأخلاقي. لا يمكن لأي مخالف لحركة المرور أو مجرم آخر أن يخلّص نفسه من الذنب، ببساطة، بالقول إن «الجميع يفعلون ذلك». هل يتشدد العالم مع إسرائيل؟ ربما. ولكن إسرائيل أيضا تتمتع بعدد لا ينتهي من الشوائب المفرطة والمبالغ فيها. العالم يتعامل معنا بصورة مغايرة، يغض الطرف عن مفاعل ديمونا ويصمت إزاء الاحتلال، والآن لم يعد راغبا في مواصلة الصمت إزاء ما يحدث في غزة. لماذا؟ لأننا بالغنا في إفراطنا هذه المرة. هذا ليس فقط حق العالم وإنما واجبه. غولدستون بدأ المهمة ومن الأفضل لإسرائيل أن تواصلها. وفي نهاية المطاف فإن الصورة التي تظهر في مرآة غولدستون هي صورتنا وليست صورة غولدستون.