المواطنة أو الحس الوطني أو الشعور بالانتماء إلى الوطن، هي مفاهيم تحيل على مقام تكون فيه العلاقة بين المواطن ووطنه علاقة وثيقة، وهي نتيجة لبناء مستمر وعملية تصحيح مسترسلة؛ فعندما يضمن المواطن الحد الأدنى من حقوقه الأولية من وطنه وعلى أرض وطنه، فإنه من الطبيعي أن يشعر بأن الانتماء إلى هذا الوطن امتياز يتوجب المحافظة عليه والذود عنه بالغالي والنفيس؛ أما عندما يصبح المواطن عالة على وطنه ويلجأ المسؤولون، بمختلف الرتب، إلى التملص من واجباتهم والتلاعب بحقوقه، فإن انتماءه إلى الوطن يصبح مجازا أو شرا يجب الفرار منه، فلا عجب إن كان أغلب المغاربة يفكرون في الفرار، البعض يفر بالهجرة تحت أي مسمى، إذ المهم هو الفرار، والبعض يفر بالمخدرات وكل الوسائل المشجعة على الهلوسة، أما آخرون فيفضلون الفرار لكن بمعانقة تيارات معادية لوطنهم، باسم العرق الصافي أو الدين النقي؛ وفي كل هذه الحالات، الجميع يفكر في الفرار، لأننا بصدد دولة لا تبني المواطنة وتسعى إلى ضمانها، بل الأصح، في عرف دولتنا، هو أنه ليس كل كائن يسمى مواطنا، فالانتماء إلى هذا الوطن ضريبة. لذلك هناك فرق كبير، على هذا المستوى بالضبط، بين دولة المواطنة ودولة الرعايا، فبما أن السيادة في دولة المواطنة تختصرها المؤسسات المنبثقة من الشعب، فإن غايتها هي قيام الحق والعدالة والإنصاف على أسس غير قابلة للتكييف والاختزال والانتقاء وما إلى ذلك من مبررات الاستبداد، وهي عندما تضمن هذا فإنها تضمن بالمقابل ولاء المواطنين. وتاريخ الأنظمة السياسية مليء بعبر تظهر أن بلوغ غاية الحفاظ على سيادة الدولة من أعداء الداخل والخارج لا تضمنه إلا وحدة الصف الداخلي، وهذه الوحدة، المسنودة بقوة الحس الوطني وعواطف الانتماء إلى الوطن، ليست معطى جاهزا يجبل الناس عليه، كما تحب بعض التحليلات الرومانسية الركون إليه، بل هي بناء مستمر وقيمة عليا تخضع لعمليات مستمرة من التصحيح، أي عندما يعيش المواطنون فعليا نعمة الانتماء إلى وطنهم، لكن عندما تكون سلامتهم معرضة دوما للخطر، وعندما يكون شعورهم بالأمن مهددا، وحين تكون ثرواتهم معرضة دوما للنهب دون مساءلة، وحين يكون مستقبل أبنائهم مضمونا.. لكن في أوطان غيرهم، وحين يكون رد الاعتبار إليهم في القضاء غير مكفول، عندها يصبح الحديث عن الوطنية والانتماء إلى الوطن مجرد كلمات جوفاء تصلح للنسيان أو تلحن في أغاني المناسبات.. وتنسى ككل ما فيها. فقبل أن تكون المواطنة قيمة ثقافية تلقن في الفصول التعليمية وتعمم في البرامج الإعلامية للمواطنين، وقبل أن نطلب من تلامذتنا حفظ كلمات النشيد الوطني وندعو الجميع إلى الوقوف احتراما لجلال قدره، فإن هذا يفترض، أولا، وقبليا أن تكون المواطنة في ممارسات رجال الدولة والقيمين على سلطها ومؤسساتها قيمة سلوكية نموذجية؛ وثانيا، أن نُكسب هذا المواطنَ بعضا من نعم الانتماء إلى وطنه؛ قبل أن نطلب منه، الواجب علينا أولا أن نمتعه بالحق: الحق في التعبير الحر، الحق في السكن، الحق في الشغل، الحق في الأمن، الحق في الملكية، الحق في الإنصاف... بعد كل هذا تصبح الدعوة إلى المواطنة تحصيل حاصل، لأن المواطنين سيهبون جميعا للذود عن مقدساتهم وأولها مقدس المؤسسات التي تضمن لهم فعليا مواطنتهم الكاملة.. أما أن تصبح هذه الحقوق الأولية أمرا عزيزا وغير مضمون، لأنها حكر على أقلية محظوظة، فإن خطورة وضع كهذا تتجلى في كون الأجيال الشابة من المغاربة اليوم أصبحت ضحية لهلوسات جماعية بالهجرة، هذا بالرغم من كون أوربا لم تعد حلما فردوسيا اليوم على الأقل: ثلث يحلم بالهجرة عبر الجغرافيا، وثلث اختصر الجغرافيا واستقدم أوربا إليهم.. لكن بالمخدرات ومختلف وسائل التخدير، وثلث أخير آثر الهجرة في تيارات سياسية لبوسها حقوقي أو ديني أو عرقي.. لكن وفق أجندات معادية لكل مقومات الوطن. لنطرح السؤال الصعب التالي: ما هي نسبة المغاربة الذين هم على استعداد للتضحية بأنفسهم لصالح وطن بهذه المواصفات التي يرونها يوميا في مستشفياتهم ومحاكمهم وإداراتهم ومقرات عملهم و مدارسهم.. وشوراعهم العامة؟ مَنْ مِنْ عموم المغاربة يشعر بالاطمئنان التام على مستقبل أبنائه؟ مَن مِن عموم المغاربة على يقين بأنه سيلقى العناية التي يستحقها إن هو أصيب بمرض دون أن يفكر في شخصية نافذة في قطاع الصحة؟ مَن مِن المغاربة على يقين بأن القضاء سينصفه إن هو تعرض لما يسلبه حقه؟ وهكذا تتناسل الأسئلة المحيرة محلقة على كافة القطاعات دون بر للأمان. إن الموطنة شعور رفيع، يتم بناؤه بإعلاء شأن المواطن، والتصدي لكل مظاهر المحسوبية والزبونية، ووضع حد لنهج الانتماء العائلي والجهوي في الحكم وفي مؤسسات الدولة، ونبذ توظيف المقدسات مهما كانت لأغراض سياسوية وإبقائها في منأى عن التنافس والصراع السياسيين، ونبذ أشكال التعصب الديني والمذهبي والعرقي والمجالي، فبدون الإعمال الفعلي للمواطنة يصعب الحديث عن توجه لإقامة دولة القانون والمؤسسات، فضلا عن الشروع في بنائها، والحاجة قائمة إلى تأمين شروط بناء الدولة الديمقراطية العصرية، دولة القانون والمؤسسات الدستورية، التي تقوم على مبادئ فصل السلطات، واستقلال القضاء، والتعزيز المضطرد لدور الرقابة البرلمانية، واحترام إرادة المواطنين المعبر عنها ديمقراطياً، بعيداً عن الضغط والإكراه، وتحريم انتهاك حقوق الإنسان، وضمان التمتع بالحريات العامة والشخصية والحقوق التي يكفلها الدستور. إن المواطن المغربي يتطلع منذ عقود إلى إعادة الثقة في مؤسسات الدولة وتقويم بنائها، ومراعاة عناصر الكفاءة والنزاهة والإخلاص والوطنية عند اختيار الوزراء وكبار موظفي الدولة وإسناد الوظيفة العامة بشكل عام، والتصدي المتسق، الصريح الواضح، للفساد المالي والإداري على جميع المستويات، ودعم الهيئات الرقابية المتخصصة في هذا الميدان، وتطوير الآليات والتشريعات التي تحمي المال العام، ولا يمكن الحديث عن مشاريع وطنية دون توجه جدي، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، لوضع حد لمعاناة الشعب، وتحسين مستواه المعيشي، ومكافحة البطالة، وتأمين الضمان الاجتماعي، واعتماد نظام عادل للرواتب والأجور، والعمل على تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير الأساسي منها مجانا.. هذه هي مفاتيح تنمية الحس الوطني لدى المغاربة.