منذ إطلاق مبادرة ما سمي بهيكلة الحقل الديني بالمغرب عام 2004، دأبت الدولة على إرساء مرتكزاتها الدينية من حيث المذهب والعقيدة بشكل تدريجي، عبر خلق إطارات مؤسساتية مثل الهيئة العليا للإفتاء وإعادة تنظيم هياكل مؤسساتية قائمة مثل المجالس العلمية ودارالحديث الحسنية، وإرسال إشارات معينة بين الحين والآخر، هدفها تحصين التوجه الديني الذي ارتضته الدولة. وقد شكلت الدروس الحسنية الرمضانية منذ ذلك التاريخ مناسبة للإعلان عن الخطوط الكبرى للسياسة الدينية الجديدة في البلاد، إذ كانت الاختيارات الكبرى للدولة تجد صدى لها في تلك الدروس، خاصة تلك الدروس الافتتاحية التي يلقيها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والتي تعد تأسيسا لتلك الاختيارات وترجمة لإرادة السلطان في الحقل الديني. ففي الدرس الذي ألقاه وزير الأوقاف أحمد التوفيق في رمضان من العام الماضي تحت عنوان «النصيحة شرط في البيعة: عمل علماء المغرب ماضيا وحاضرا»، جرى التركيز على التنظيم المؤسسي للعلماء في المغرب خلال عهدي الملك الراحل الحسن الثاني والملك الحالي محمد السادس، مع إحداث المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وكان ذلك الدرس مناسبة لتوجيه رسالة إلى علماء المغرب بضرورة الالتزام بالخط العام للتدين في المملكة واحترام «مشيخة العلماء» والحدود المرسومة من قبل الدولة لقضايا الإفتاء الشرعي والتشريع والعبادات. هذه القضايا هي نفسها سيتم الرجوع إليها، لكن بنوع من التفصيل أكثر، في الدرس الذي ألقاه أحمد التوفيق في رمضان الأخير تحت عنوان «التزام المغاربة بالمذهب المالكي ووفاؤهم لأصوله». ويمكن القول إن هذا الدرس يشكل ترسيما للخريطة المذهبية للمغرب ويرسي الأسس التفصيلية لها، بعد الترسانة المؤسساتية التي أنشئت طيلة السنوات الأربع الماضية. فقد أبرز التوفيق أن المذهب المالكي الذي دخل المغرب في القرن الثاني الهجري شكل مكونا للهوية المغربية الدينية والوطنية، وصاغ ملامح المغرب من خلال ثلاث واجهات هي: واجهة تخليص البلاد من التيارات الخوارجية، وواجهة ترسيخ مذهب أهل السنة والجماعة، وواجهة استكمال إسلام المغرب وتأطيره بالمساجد والرباطات. وبعد أن قام الوزير بإطلالة تاريخية على الدور الذي قام به المذهب المالكي في المغرب طيلة القرون الماضية، توقف عند حالته الراهنة في مغرب اليوم، حيث رصدها من خلال خمسة مظاهر هي: مشيخة العلماء، الإفتاء، التشريع، التعليم والبحث العلمي، والعبادات. وأوضح التوفيق أن المشيخة، التي كانت تستند في الماضي على رمزية العلماء ودورهم في الوقاية من الفتن، تظهر اليوم من خلال المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية كمؤسسات رسمية، محددا شروط العمل من داخلها في احترام المذهب، والعلم الضروري به، والتحلي بالقبول لدى الناس، والعدالة، معتبرا بأن المجالس العلمية تشكل «بوابة قانونية» لعمل علماء وفقهاء المغرب جميعهم. وفيما يتعلق بالإفتاء، أكد الوزير أن تأسيس هيئة الإفتاء بالمغرب حسم تجرؤ البعض على الفتوى دون احترام أخلاق المذهب، مصنفا الآراء الفقهية إلى ثلاثة أقسام: «القول التعليمي الذي يقدمه وعاظ مقبولون بعلمهم، والرأي الخاص الذي يدخل في خانة «حرية التعبير، أما الثالث فهو الرأي الشرعي المعتمد، الذي تصدره الهيئة ويسمى فتوى». وفيما يتعلق ب«التشريع»، قال الوزير إن المغرب اعتمد قوانين لا تحرم حلالا ولا تحلل حراما مثل ما حصل مع مدونة الأسرة باحترام مقاصد الشرع وقواعد المذهب والمصلحة العامة. أما التعليم والبحث العلمي في المذهب المالكي، فتتكفل به جامعة القرويين ودار الحديث الحسنية، وشعب الدراسات الإسلامية وشعب الشريعة بالجامعات المغربية. وأشار التوفيق إلى جهود فقهاء المالكية في توجيه الأمة وفق أربعة جوانب، تتعلق بالوفاء لبيعة الإمام الشرعي، واعتبار العدل شرطا لليقين واعتبار اليقين شرطا لقيام شرع الله، والحرص على تحقيق الانسجام بين الشرع والتنوع الثقافي من خلال الاهتمام بالعرف والعمل، والإبانة عن ممارسة وفهم ذكيين للتقليد، مستحضرا نموذج القاضي عياض وعبد الواحد الونشريسي ومواقفهما في احترام الإمام الشرعي. وبعد إبراز حرص الفقهاء المالكية على الشرع مع التنوع الثقافي، أكد الوزير أن «العلماء لم يكونوا انقلابيين ولا خوارج عن الإمام، بل كانوا مؤسسيين (أي يؤمنون بالعمل من داخل المؤسسات)، حريصين على تقويم سلوكات الناس بتبني المرجعية الميدانية المعيشية» فيما يسمى بالنوازل والأجوبة.