تأملوا جيدا هذين الخبرين القادمين من العاصمتين الفرنسية والإسبانية، واللذين تزامن صدورهما مع الضجة الإعلامية التي تقودها صحف في إسبانياوفرنسا بسبب متابعة بضعة شباب في قضية الإفطار العلني في رمضان. لنبدأ بالخبر الباريسي الذي يقول: «دعت نقابة طلابية فرنسية إلى اعتبار الثلاثاء المقبل «يوما للثوب القصير» احتجاجا على الطرد المؤقت لطالبة متهمة بالتحريض على ارتداء «الميني جيب» وتضامنا معها. وأبدى أعضاء «الاتحاد المستقل لطلبة الثانويات»، في بيان أصدروه، استغرابهم التصرف المتشدد لإدارة المدرسة إزاء أشكال اللباس الذي ترتديه الطالبات». قصة هذا الخبر بدأت بالطريقة نفسها التي بدأت بها حركة «مالي»، حيث دعت طالبة، عاقبتها إدارة مدرستها بالطرد ثلاثة أيام بسبب لباسها القصير، رفيقاتها عبر «الفايسبوك» إلى مخالفة وتحدي تعليمات الإدارة وحضور الدروس بثياب قصيرة، علما بأن الأخيرة تمنع الطالبات من ارتداء الثياب القصيرة والسراويل القصيرة وكذلك سراويل «الجينز» المثقوبة.. هذا في فرنسا العلمانية، «أجي تشوف البنات فثانويات المغرب البلد المسلم آش لابسات». وبالفعل، لبت الطالبات نداء صديقتهن المطرودة وجاءت حوالي 200 طالبة في اليوم الموالي للاحتجاج بارتداء «الشورط» في ساحة المدرسة. والنتيجة كانت هي طرد الطالبة المحرضة لمدة ثلاث أيام إضافية وحظر التظاهر داخل ساحة المؤسسة وطرد الطالبات اللواتي قمن بالاحتجاج إلى بيوتهن. الخبر الثاني والقادم من العاصمة الإسبانية مدريد يقول إن الشرطة منعت خلال حفل شبابي بإحدى حدائق مدريد ظاهرة اسمها «البوتيون»، حيث تعود الشباب الاجتماع خلال الحفلات لتعاطي الخمور والرقص. ومع ذلك، لم تكتب جريدة «إلموندو» مقالا كالذي كتبته حول منع مفطري رمضان من أكل «الفقاص» بشكل علني، عندما عنونت مقالها ب«100 شرطي ضد 10 سندويتشات»، رغم أن 100 شرطي إسباني حضروا في حديقة مدريد لمنع فتح عشر قنانٍ من الخمور. الجميع في فرنسا اعتبر قرار مديرة الثانوية، التي عاقبت الطالبات المخالفات للقوانين الداخلية للمؤسسة، قرارا سياديا يدخل في إطار تطبيق القانون واحترامه. كما أن الجميع في إسبانيا سجل بارتياح تدخل الشرطة لمنع حفل «البوتيون» في حديقة مدريد، لأن هذا التدخل الأمني فيه تطبيق للقانون الذي طالما تساهلت معه الشرطة الإسبانية. عندنا في المغرب، عندما طبقت الشرطة القانون وفرقت الشبان الستة الذين تحدوا القانون والمجتمع والدين وتحركت مسطرة قضائية في حقهم، ثارت ثائرة هاتين الصحافتين الفرنسية والإسبانية وشرعتا في إعطائنا دروسهما العتيقة في الديمقراطية والحرية الفردية وما إلى ذلك من الأسطوانات المشروخة التي «يهردنا» بها الغرب كلما أراد لعب دور الأستاذ مع تلميذه الكسول. ما أثار سخريتي حقا هو حديث البعض عن محاكم التفتيش الجديدة في المغرب بمناسبة استنطاق هؤلاء الشباب المفطرين من طرف الأمن. ومن يقول هذا الكلام، بعض الصحافيين الإسبان الذين يعرفون أكثر من غيرهم أن محاكم التفتيش اختراع إسباني صرف. فعندما كان الإسلام يعم أركان الأندلس، عاش في كنفه المسيحيون واليهود لثمانية قرون. وهم يعرفون أكثر من غيرهم أنه إذا كانت هناك من ديانة متسامحة مع الديانات الأخرى فهي الإسلام، والدليل على ذلك أن الكنسية المسيحية عندما استعادت السيطرة على الأندلس كان أول شيء قامت به هو طرد المسلمين واليهود معا وإجبار كل من يريد البقاء فيها على التحول إلى المسيحية. سنوات بعد ذلك سيتم طرد الجميع، بمن فيهم الذين قبلوا تغيير دينهم الإسلامي واليهودي بالمسيحية. ومن يحبون التاريخ، ما عليهم سوى البحث عن رواية أمين معلوف «ليون الإفريقي» وسيجدون فيها فصولا كاملة تتحدث عن هذه التهمة التي نسيها الإسبان ويريد بعضهم اليوم إلصاقها بالإسلام. خلال تصفحي للصحافة المغربية الصادرة خلال نهاية الأسبوع الماضي، وقعت على مجلة نشرت مقالا حول حركة «مالي» واستندت إلى أرقام دراسة حول «الإسلام اليومي للمغاربة» صادرة عن مركز «فريديريك إيبير» سنة 2006، تقول إن 66 في المائة من المغاربة معادون للسامية. يتهمون المغاربة بمعاداة اليهود مع أن المغرب هو البلد الوحيد الذي رفض ملكه محمد الخامس تسليم اليهود المغاربة إلى الماريشال الفرنسي «بيتان» الذي كان يجمع اليهود من كل المدن الفرنسية ويرسلهم عبر قطارات البهائم إلى المحارق الألمانية في «داشو» و«أوشفيتز» و«تريبلينكا». ورغم أن المغرب كان تحت حكم الاستعمار الفرنسي، فقد قال محمد الخامس للماريشال «بيتان» إن المغرب ليس فيه مواطنون مسلمون ومواطنون يهود وإنما فيه مواطنون مغاربة فقط. يبدو أن فرنسا التي توزع صحافتها تهم معاداة السامية اليوم على كل من هم، في الواقع، معادون للصهيونية، نسيت تاريخها الأسود مع اليهود عندما سلمتهم إلى محارق النازية وغرف غازها، مع أنها الدولة التي قامت، قبل ثلاثة قرون من اقتراف هذه الفضيحة، بالثورة الفرنسية وأخرجت للعالم شعار الأخوة والعدالة والحرية. وحتى الكنسية المسيحية التي تتباكى اليوم على مأساة اليهود وتتهم الإسلام بالعنف، كما قال ذلك البابا «بندكتوس» بعظمة لسانه، تناست مساعدتها للمتورطين في جرائم النازية على الإفلات من محاكمة «نورمبورغ» عندما سهلت لهم الحصول على جوازات سفر دبلوماسية ووثائق عمل ضمن منظمة الصليب الأحمر. والبقية المتبقية من هؤلاء النازيين شغلتهم الولاياتالمتحدةالأمريكية لمحاربة الشيوعيين في أوربا الشرقية مع أنها تعرف أكثر من غيرها أن مكانهم الحقيقي هو السجن. هذا الغرب الذي يتهم المسلمين بالعنصرية ومعاداة السامية ويغمض عينيه عن عنصرية إسرائيل الحقيقية التي بنت دولتها على العرق اليهودي دون غيره من الأعراق؛ هذا الغرب الذي يغمض عينيه منذ ستين سنة عن ذبح الفلسطينيين، كما أغمض عينيه عن قتل مليون عراقي بسبب التجويع الذي مارسه العالم المتحضر على العراق بتهمة إخفاء أسلحة نووية تأكد العالم بأسره زيفها؛ هذا الغرب الذي يقتل يوميا عشرات المواطنين البسطاء العزل في قرى أفغانستان، ومع ذلك يملك الوجه لكي يعطي دول العالم الثالث الدروس والعظات حول احترام حقوق الإنسان والأقليات. إن الإسلام الذي يعلنون عليه اليوم الحرب تحت مسميات مختلفة، تارة الإرهاب وتارة أخرى التطرف وتارة تحت شعار حماية الأقليات المضطهدة، هو أول من ينص على احترام حقوق الإنسان والأقليات، وأول من طالب باحترام أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب. والمغرب، الذي يريد البعض اليوم تقديمه كبلد يستوطنه التعصب والتطرف والكراهية، ينسون أنه واحد من البلدان الإسلامية القليلة التي يمكن أن تصادف فيها داخل حي واحد مسجدا وكنيسة مسيحية وكنيسا يهوديا، وإذا بحثت جيدا يمكن أن تعثر على «بار» في مكان قريب من هذه الأماكن الثلاثة. «لكل وجهة هو موليها» صدق الله العظيم. إن هذا الغرب المنافق، القادر على تحويل الاستبداد إلى ديمقراطية والذي يحمي بجيوشه ومخابراته أغلب الدكتاتوريات العربية نكاية في شعوبها المقهورة، يعرف كيف «يلحن» جرائمه ويحولها بجرة قلم إلى فتوحات من أجل نشر الديمقراطية والعدالة والحرية. وقد رأى العالم بأسره نتائج هذه الحرية المزعومة في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها من الدول التي وطئتها أقدام الحلفاء وأذنابهم الصهاينة. لذلك يجب أن نتخلص من عقدة الخوف تجاه هذا الغرب وصحافته المتعالمة التي احترفت «تجبيد» آذان حكامنا ومسؤولينا. إنهم ليسوا في مستوى إعطاء الدروس للآخرين؛ فبلدانهم هي الأخرى تغرق في الفضائح العسكرية والفساد المالي والأخلاقي حتى الأذنين. في بلدانهم يطالبون باحترام القوانين وتطبيقها، وفي بلداننا عندما نطبق القوانين ينزعجون. «على هاذ الحسب أسيدي تعالاو حكمو نتوما والسلام».