تتباكى العديد من الأنظمة الحاكمة في عالمنا المُعاصر على غياب معارضة قوية، تعيد إلى الديمقراطية مَعْنْاها وجَوْهَرَها، وتزود الأغلبية الحاكمة بالمشروعية والشرعية، وتكون قادرة على تصحيح المسار والحد من جموح السلطة، إذ إن السلطة بطبعها ميّالة إلى التعسف واستعمال أنياب الطغيان والاستئثار بالرأي والقرار (تْسيْطَرْ عْلِيهُم بُوحْدْها) إذا ما غاب الرادع الرقابي. يحدث هذا في دول أصبحت الديمقراطية فيها بْعْقلْهَا، واكتمل عقدها الديمقراطي، وقطعت أشواطا كبيرة على درب (ماشِي ضَرْبِ) إرساء وترسيخ دور المؤسسات وتعزيز استقلالية السُّلط ومنع أي تداخل بينها ووضع حواجز منيعة واقفة على الصّح في وجه الإملاءات، أو الانفراد بسلطة التقرير في مصير البلاد والعباد. والغريب العجيب أن الجدل حول الديمقراطية ومنظومة الحريات يحتد ِويسخنْ غير فالدول اللي كتمارس ديمقراطية صورية ديال بْلْعَاني، موجهة إلى الاستهلاك الخارجي، وتلك التي تعتبر الحرية مجرد ترف زائد وكلام خاوي وملهاة عبثية لا ينبغي أن تتسلى وتلعب بها شعوب «غير ناضجة» مَازَالْ ما طَابْت وهُومَا «طَيْبُوها» بكل أنواع وألوان الظلم والاحتقار، بل ويعتبرونها «جاهلة» نظرا إلى إفلاس منظومتها التعليمية ونتيجة لسنوات التجريب والارتجال والخضوع لتعليمات المنظمات النقدية الدولية (دَّاوْ ليّا وْلِيك كُلْ شِي) التي صادرت سيادة الدول المَدِينة وغَرقْتْنا دْيُونْ، والتي بَدَّد حكامها ثروات شعوبهم (وثروة حتى النصر)، ولم يعملوا على إنتاج ثروات وطنية يكون أساسها ووقُودُها الحقيقي هو العنصر البشري، وحين يتجادل ديمقراطيو الساعة الخامسة والعشرين في صالوناتهم الشاسعة مترامية الأطراف، حول أفضل السبل للالتفاف حول مطالب الشركاء بضرورة إرساء الديمقراطية وترسيخ الحريات، فإنهم يكونون واعين تمام الوعي بأن تلك المطالب الغَرْبية سِمَتها النفاق، ولذلك فهي غير مُلزمة لدول «الديمقراطيات الناشئة». ولم يتردد الرئيس الفرنسي السابق «جاك شيراك» في أن يعلن صراحة أن الديمقراطية لا تصلح لإفريقيا، فيما أثار الرئيس الفرنسي الحالي «نيكولا ساركوزي» زوبعة في أوساط النخب الإفريقية حين ألقى خطابا في وجه الحاضرين بجامعة داكار السنغالية، أكد فيه أن القارة السمراء عاجزة عن مواكبة العصر وغير قادرة على الإمساك بزمام مستقبلها.. ساركوزي جا يدبر على راسو. وبدورها، عمدت الإدارة الأمريكية إلى غسل يديها وتبرئة ذمتها من دم الديمقراطية المُراق في العديد من الدول، وعلى رأسها الدول العربية، وذلك عبر إصدار الخارجية الأمريكية لتقرير سنوي يُحصي التجاوزات والخروقات المسجلة في الدول الخارجة عن السِّرب الديمقراطي. وحين تمعن في قراءة ذلك التقرير السنوي وتعاود تقراه شحال من مرة، تكتشف أنه مجرد تجميع للمقالات والأخبار الصادرة في الصحف المحلية لتلك الدول، فيما يمتنع التقرير عن إيراد خلاصات التقارير الواعرة والخطيرة التي تعدّها وتدبّجها المخابرات الأمريكية عن سلوك الحكام ومصادر ثرواتهم وسجونهم السرية الرهيبة وعلاقاتهم المشبوهة مع عالم المال والأعمال والبزنس والاستثمار والمضاربات البورصوية، واللي كان عندو الزهر وفتح ليه الحظ أبواب الكونغرس الأمريكي لحضور جلساته العمومية المخصصة لمناقشة الدعم السنوي (لْفْْلِيسَات) الذي تقدمه أمريكا إلى دول «العالم الثالث»، فإنه سيكتشف أن «المؤاخذات» التي تسجل ضد تلك الدول مصدرها الأساسي هو التقرير السنوي للخارجية الأمريكية. وبناء عليه، يزيد الكونغرس أو ينقص من حجم المساعدات، كما لو تعلق الأمر بمدرس يمنح التلاميذ النجباء قطعا من الحلوى، ويهوي بمسطرته الحديدية على رؤوس الكسالى منهم. وفي كل الحالات، لا يتعلق الأمر بإجراءات عقابية ضد الدول المستبدة، بقدر ما يتعلق بعتاب خفيف الظل، على عينين عباد الله، لا تبعات ترجى منه. إنها اللعبة الدولية التي تهمش إرادة الشعوب بالرغم من إعلان النوايا من منابر المحافل الدولية المنقادة وراء إرادة «الكبار». لذا لم يعد من مجال للشعوب المكتوية بنار الاستبداد والقهر والفقر أن تنساق وراء أوهام دول تحتكر الديمقراطية والحرية لشعوبها (هذه الشعوب التي كافحت لنيل حريتها) وتستكثرهما على المستضعفين في الأرض (وهذه الشعوب المظلومة خصها تعول على راسها لتنال حريتها) كما سماهم «فرانز فانون» Franz Fanon : «les damnés de la terre». فإذا لم تصنع الشعوب ديمقراطيتها بيدها ولم تنتزع حريتها، فإنها ستفقد بوصلتها ويطول عذابها وتعمق مأساتها، خصوصا إذا اقتنعت بوهم انتظار الذي يأتي أولا يأتي أبدا من سماوات «الكبار» التي لا تمطر ديمقراطية ولا حرية، وإنما تتفرج على عذابات الآخرين وتحولها إلى تجارة مربحة بعد أن تذرف دموع التماسيح في جامعة داكار أو داخل الكونغرس الأمريكي.