الفتوى التي سبق أن أدلى بها عبد الباري الزمزمي والقاضية بجواز شرب الخمر من طرف المرأة الحامل إذا اشتهته بفعل الوحم، تطرح قضية استعمال الدين في ما يناقض العلم. فكما أن هناك فتاوى تدعو المسلمين في المغرب إلى تنظيم حياتهم على أسس مخالفة لما ينص عليه القانون، بدعوى أن ذلك ما يأمر به الشرع، وخاصة في مجال الأسرة (فتاوى ضد القانون)، هناك أيضاً فتاوى تدعو إلى اتباع حلول ومواقف تتنافى مع ما وصل إليه العلم (فتاوى ضد العلم). فتوى الزمزمي، تتناقض مع العلوم الطبية من زاويتين: - فالأطباء، من جهة، مجمعون في كل أصقاع الدنيا، باختلاف الديانات والعقائد، على أن شرب المرأة الحامل للخمر فيه ضرر على صحة الجنين؛ - وليست هناك، من جهة ثانية، علاقة علمية ثابتة بين ظاهرة الوحم وما قد يظهر على جسد الجنين من تشوهات، فهذه العلاقة من صنع الخيال الشعبي، وقد ذاع الاعتقاد بوجودها. وإذا كانت الأفكار السائدة في المجتمع لا يمكن أن تقوم مقام العلم، فإن مهمة العلماء المتنورين هي تصحيح الأخطاء العلمية الشائعة، والمساهمة في الانتصار للعلم والتقدم، ونشر المعرفة العلمية الضرورية لحياة الناس على أوسع نطاق. من المؤلم أن يستعيض المفتي عن القواعد العلمية والحقائق الطبية بالمعتقدات الشعبية القديمة التي لا تصمد أمام خلاصات التجربة العلمية الإنسانية، فهذه الاستعاضة هي ركوب لنوع من الشعبوية الضارة. والغريب أن أطباء المغرب من خلال هيئاتهم ومجالسهم لا يتدخلون لوقف مثل هذا العبث، ولا يتصدون لمسلسل نشر الجهل باسم الدين. وسكوتهم هذا، قد يعتبره الكثير من الناس تزكية للفتاوى التي تناقض المعرفة الطبية. وبمناسبة شهر رمضان الأبرك، نقف على سلوكات تقتضي انتقال الأطباء إلى الفعل والمبادرة، ذلك أن التركيز يتم، مثلاً، على مزايا صوم رمضان من الناحية الطبية، وهذا مهم وجوهري ونتلقاه منذ الصغر في المدارس ومؤسسات التنشئة المختلفة، ونقتنع به، ولذلك ارتضينا الالتزام بالصيام، ولكن الأوساط الطبية -أمام شيوع ظواهر صيام من لا قدرة له على ذلك، إمعاناً في إظهار محبة الله والتماس عفوه تعالى ومرضاته، وأمام شيوع ظواهر صيام الأطفال التي تحولت أحياناً إلى تنافس بين الأسر على من ينجح في ضمان صيام أصغر الأطفال- لا تبدي درجة الحزم الضروري في مواجهة مثل هذه الظواهر بالنسبة إلى دين يقوم على اليسر وتعتبر المحافظة فيه على النفس من أشد الواجبات. إن المطلوب من الأطباء، مثلاً بمناسبة شهر رمضان، هو القيام، من تلقاء أنفسهم، بحملات ضد صيام الأطفال الصغار، وضد صيام ذوي الأوضاع الصحية الخاصة التي يتوجب على أصحابها الإفطار بدون حرج، وطمأنتهم إلى أن ذلك يدخل في صميم قواعد الدين. هناك، طبعا، مجهود طبي يُبذل كل سنة على هذا المستوى، ولكن ما يقع في قاعدة المجتمع يتطلب مضاعفة ذلك المجهود. إن فتوى الزمزمي هي مجرد نقطة في واد من الفتاوى المناهضة للعلم باسم الدين، وقد يجد بعضها طريقه إلى النشر. وفي هذا الإطار، نلاحظ، مثلاً، أن جريدة «التجديد» المغربية أخذت نصيبها في ترويج هذا النوع من الفتاوى.. ففي العدد 1928 الصادر في 4-6 يوليوز 2008 على الصفحة 10، وبصدد سؤال عن حكم قص شعر الحواجب، يقول الأستاذ عبد الرزاق الجاي: «إذا حرم الله شيئاً فلحكمة لا يعلمها إلا هو، وقد وقف الأطباء على جزء من هذه الحكمة، حيث وقفوا على أن مس شعر الحاجب يؤثر على صحة المرأة وجمالها، فهي لا تزداد جمالاً كما تظن، بل هي تسعى وراء خطوات الشيطان الذي يأمر بتغيير خلق الله، فلا تبقى على الصورة التي رسمها الله لها فتتأثر صحتها، والكلام عند الأطباء في هذا ثابت يمكن الرجوع إليه». إننا نتساءل، هنا، عن المصدر العلمي الموثوق الذي استقى منه المفتي هذا الحكم القطعي بحصول ضرر على مستوى صحة المرأة بسبب إقدامها على قص الحواجب، وهو ما درجت عليه النساء في كل بقاع العالم. كان بإمكانه، هنا، الدفاع عن أطروحة التحريم إذا شاء، بدون التقول على العلم، إذ ليس هناك في قص شعر الحواجب من ضرر خاص يصيب صحة المرأة، باستثناء ما قد يلحق أنسجة الجلد من خدش يوازي ما تحمله حلاقة الذقن لدى الرجال من إمكان الإصابة بجروح أو خدوش بسيطة، تلتئم في الأغلب بدون علاج ولا تتطلب أي تدخل طبي، أو ما قد يتسبب فيه استعمال آلات القص من أضرار بسبب عدم نظافتها، وليس بسبب القص في حد ذاته. والزعم بانطواء قص الحواجب على ضرر صحي يسهم في الترهيب والتخويف من عملية القص، فيحقق بذلك المفتي غرضه بدون جهد إضافي، إلا أنها ليست الطريقة المثلى، على كل حال، للدفاع عن رأي المفتي في عدم جواز قص الحواجب شرعاً. وفي العدد 2116 الصادر بتاريخ 9 أبريل 2009 (الصفحة 7) وبصدد سؤال عما إذا كان في القرآن شفاء لكل الأمراض، يجيب الأستاذ عبد اللطيف الميموني بما يلي: «وننبه السائل إلى أن القرآن الكريم أرشد إلى علاج الأمراض البدنية عند أهل الاختصاص، بسؤال أهل الذكر وبالأمر بالتعلم. وفي الأثر: لدغت النبي (ص) عقرب، فدعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ: قل يا أيها الكافرون والمعوذتين. ويدخل في العلاج العام علاج مرضى الصرع والسحر وغيرهما، فإذا قرأ رجل صالح شيئاً من القرآن مع أدعية مأثورة شُفي المريض بإذن الله. ولا بد من الإيمان الخالص واليقين الصادق لأن الشفاء من عند الله». وتخالف هذه الفتوى ما توصل إليه العلم من خلال عنصرين: - الأول هو حديثها عن مرض اسمه السحر، وهذا لا يوجد في المراجع العلمية لتصنيف الأمراض، أي أن الفتوى تنطلق من إمكان وجود شخص «مسحور» يعاني مضاعفات وآثار أعمال سحر قام بها ضده شخص أو أشخاص آخرون بدون أن يصل ذلك إلى درجة تسميمه أو وضع مواد ضارة بصحته في طعام تناوله. إن الطبيب النفساني قد يجد نفسه أمام مريض يعتبر نفسه واقعاً تحت تأثير السحر، فيتجه في علاجه وجهة تحرره من هذا الوهم، أما أن يسلم الطبيب اليوم بفاعلية أعمال السحر التي تُبَاشر من بعيد بدون اتصال مادي ل«الضحية» بمواد أو أطعمة، فمعناه الكفر بكل ما تلقاه في مسار تكوينه الطبي؛ - الثاني هو اعتبار الصرع مرضاً يمكن أن يُعالج بمجرد قراءة القرآن الكريم. صحيح أن هذه القراءة تساعد في الشفاء من الأمراض النفسية بفضل ما قد تمنحه للمريض من اطمئنان وثقة في النفس وشعور بالراحة والدّعة، وقد يساعد ذلك حتى في تعزيز فعالية الأدوية والتدخلات الجراحية التي تتطلبها معالجة الأمراض البدنية، ورغم أن ذ. الميموني يقر بأن هذا النوع من الأمراض يُلجأ فيه إلى أهل الاختصاص، فهو لم ينتبه إلى أن الصرع هو أيضاً من الأمراض العضوية (Affection Neurologique)، ويعالج بالجراحة أو الدواء. وربما وقع المفتي في الخلط بين الصرع Epilepsie والهستيريا Hystérie، فهما معا يتخذان، في حالة نوبة أو أزمة، صورة متشابهة خارجياً، وكل أهل الاختصاص يدركون الفروق القائمة بينهما، فالهستيريا لا يكون وراءها أي اختلال عضوي، فهي مرض نفسي. وعندما نطلب الإفتاء في أمور لها صلة بعلوم يجهلها علماء الشريعة أو يجهلون تفرعاتها وتفاصيلها، ويغامرون بالإبحار في يَمّ لا يجيدون مجابهة أمواجه، قد يسقطون في أسر المعتقدات الخرافية السائدة، ويعطونها مشروعية دينية، ويعمقون بذلك الجهل في المجتمع. وأخطر ما يمكن أن يقع، في حالتنا مثلاً، هو أن يكتفي المريض الذي أُشعر بأنه يعاني من الصرع، أو عائلته، بتلاوة القرآن الكريم، ويعرض عن الذهاب إلى الطبيب، فتتفاقم حالته أو يموت، بسبب تبجيله للفتوى التي تلقاها ولصاحب الفتوى. وقد أتحفتنا القناة التلفزية الأولى يوم 7 غشت 2009 ب «فتوى» تتحدث عن «الطب النفسي الإسلامي» وتعتبره «بديلاً عن ذهاب من يشعر بإحباط وقنوط عند الطبيب ليقدم إليه أدوية تجعله في حالة ارتخاء كمن تناول مسكراً أو تجعله ذليلاً، وهذا مضر..». إنها دعاية رسمية مضادة لعيادات الطب النفسي، ومع ذلك لم تُصدر هيئات الأطباء النفسانيين أي رد فعل. يا أطباء المغرب انتفضوا ضد الفتاوى التي تكرس الجهل بمقتضيات العلوم الطبية في مجتمعنا.