ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» - البعض يقول إن السنة فيها الضعيف، وفيها الموضوع، وفيها المنكر، وفيها الواهي، فكيف نفرق بين هذا وذاك، وهل نترك السنة كلها حتى لا نأخذ حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا؟ > هذا الكلام يقال لو ترك الأمر ولم يوجد رجال نذروا أنفسهم لنخل السنة نخلاً، وتنقيتها من الضعيف والواهي، والمنكر، والموضوع، ولا توجد سنة نبي خدمت كما خدمت سنة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث توافر عليها آلاف الرجال، وترى كتب الرجال ومن فيها من عشرات الآلاف، وفي النساء ستة آلاف امرأة من الرواة. هؤلاء الناس عاشوا لخدمة السنة ونقلها وأخذها ممن سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رآها، ثم هذا ينقل لمن بعده، ومن بعده ينقل لمن بعده، ولذلك وضعوا علمًا لهذا الأمر هو «علم أصول الحديث»، أو «مصطلح الحديث»، ووضعوا فيه الشروط التي يُقبل فيها الحديث، ومتى يكون الحديث صحيحًا؟ ومتى يكون حسنًا؟ ومتى يكون موضوعًا؟ الأمة تعبأت لهذا الأمر، وعبد الله بن المبارك سأله سائل فقال له: رويت عن فلان حديثًا في كذا وكذا، فقال له: عمن أخذته؟ قال: فلان قال له: ثقة، عن من؟ قال: عن فلان قال له: ثقة، عن من؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له «ابن المبارك»: إن بين فلان هذا وبين رسول الله مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، أي مراحل بعدية فالخبر عن رسول الله لابد أن يكون منقولًا ثقة عن ثقة، من مبدأ السند إلى منتهاه، وإذا وجدت فيه أي فجوة في أول السند، أو في وسطه، أو في آخره يرفض، لأنه غير متصل، ويسمى معضلاً أو معلقًا، أو منقطعًا، أو مرسلاً، ومعناه أن فيه خللًا في تواصل سلسلة السند. المتن والسند - البعض يقول إن هذا الاهتمام كان اهتمامًا بالسند دون المتن، وهو اهتمام بالشكل دون المضمون، فكيف نرد على هؤلاء، خصوصًا أن هناك فعلًا بعض الأحاديث صحيحة السند، وقد يوجد في المتن علة معينة. > الأولون كانوا يهتمون بالسند؛ لأنه يريد من سمع رسول الله، ومن سمع عمن سمع من رسول الله، وذلك كي يضبط الرواية، ثم بعد ذلك لما دخلت الفتن ودخل الكذابون، بدؤوا يتحرون، وقالوا: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وقد رأى بعضهم كتابًا لمقاتل، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد، فكان لا بد من السند، لكن لكي يكون الحديث صحيحًا، لا بد أن يسلم من الشذوذ والعلة. - وما معنى ذلك؟ > الشذوذ يعني أن يروي الثقة ما لم يروه الثقات الآخرون، ولذا يقول العلماء: تتبعوا الغرائب، بمعنى أن الراوي من الأشياء التي ترده ولا تجعل روايته مقبولة، أن يأتي بأشياء غريبة منكرة في موضوعاتها، ولا يأتي أحد غيره بها، فيرفض، فالشذوذ هو أن يروي ما لم يروه الآخرون، أو يشذ عما رواه الآخرون، ينفرد بما لم يروه الثقات. أما العلة فقد تكون في السند وقد تكون في المتن، فالسيدة عائشة ترفض أحاديث يرويها بعض الصحابة، لأنها ترى أن المتن غير صحيح، وتقول له: لعلك لم تسمع، وذلك في حديث: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، حيث قالت كيف هذا وربنا يقول (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ) كما يقول تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). تشريع أم خبرة؟ - تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية، ألا يفتح الباب أمام «كل من هب ودب» ليقول هذا تشريع وذلك ليس بتشريع؟ > «من هب ودب» هذا لا يخيفنا، لأن علينا أن نقول الحق، ولا يهمنا «من هب ودب»، فالمهم أن نقرأ الحقائق، وعندما ننظر إلى ما روي من الأحاديث والسنن، نجد بعضه للتشريع، وبعضه ليس للتشريع، فهناك أشياء يقولها الرسول بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأشياء يقولها بحكم الخبرة البيئية، كما في حديث تأبير النخل. والإمام العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي، له كتاب قيم يعد من كتب الإحياء والبعث الإسلامي في الهند وفي العالم الإسلامي، اسمه «حجة الله البالغة»، وقال فيه: إنه ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث وسنن منه ما سبيله سبيل الرسالة، أي التشريع، ومنه ما ليس سبيله سبيل الرسالة، ومنه الطبُ»، يعني أمور الطب، التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الأدوية، فهي ليست من الوحي، وقالها الرسول بحكم الخبرة. - لكن فضيلة الشيخ النبي صلى الله عليه وسلم قيل له فيما معناه، بأنه بشر وأنه يغضب، فهل يكتبون عنه حتى في حالات الغضب، فقال: اكتبوا فإنه لا يخرج من هذا إلا الحق. > ما ذكره الرسول حق؛ لأنه ليس كذابًا، وهو لا يكذب ولا يقول باطلًا، وإنما السؤال: هل هو وحي أم لا؟ وهل هو تشريع خاص أم تشريع عام، وهل هو تشريع دائم أم غير دائم، كما أن هذا أيضًا يدخل في شخصيات الرسول؛ لأن الرسول له أكثر من شخصية، والرسول له تصرفات بصفته الشخصية، وبصفته الأسرية كرب أسرة، وبصفته إمام المسلمين ورئيس الدولة، وبصفته قاضيًا، وبصفته مفتيًا، والعلماء تعرضوا لهذه التصرفات وكل تصرف منها له حكم، فحينما قال: «من قتل قتيلاً فله سلبه»، هل قال هذا باعتباره قائد المعركة وينفذ كلامه في تلك الغزوة أم يؤخذ عنه كتبليغ عن الله وحكم عام؟. وإذا قال «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» هل قال ذلك بصفته إمامًا للمسلمين أم بصفته مفتيًا يبلغ عن الله؟ أبو حنيفة قال: إن الرسول قال ذلك بصفته إمامًا، ولذلك لا يجوز لأحدٍ أن يحيي الأرض إلا بإذن الإمام، وهكذا. - لكم كتاب أسميتموه «السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة» ما معنى أن السنة مصدر للمعرفة والحضارة، وهل المعرفة والحضارة يدخلان في التشريع؟ > الكل ينظر إلى السنة كمصدر للتشريع، حتى أنا دائمًا أقول للتشريع وللتوجيه، فنأخذ منها أساليب الدعوة وأساليب التربية، وليس فقط الحلال والحرام، والفرض والمستحب، وفي هذا الكتاب أردنا أن نقول إن السنة مصدر للمعرفة، تعطي الإنسان معارف مهمة لا يحصل عليها من غير السنة، كما أن القرآن أيضًا مصدر لمعرفة هائلة لا تؤخذ إلا من كتاب الله، كما أن السنة مصدر للحضارة، ففيها الفقه الحضاري، والسلوك الحضاري، وذكرت أصولاً لذلك وقواعد وأمثلة. فهم السنة بالقرآن - ذكرتم في كتابكم، كيف نتعامل مع السنة»، أن أول معلم من معالم فهم السنة هو فهمها في ضوء القرآن الكريم، فما معنى ذلك؟ > السنة كما ابتليت بمن يكذب عليها ويبث فيها ما ليس منها، وبمن ينكر حجيتها ويقول إنه لا يؤخذ منها حكم، وإننا لا نؤمن إلا بالقرآن، والجماعة الذين يسمونهم في عصرنا القرآنيون، وهم ليسوا بقرآنيين، لأن القرآن هو الذي دعانا إلى الأخذ بالسنة (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ) (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ابتليت كذلك بمن يسيء فهمها ويفهمها على غير وجهها، وهذا الذي قال فيه الحديث: «ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فتأويل الجاهلين يفقد السنة معناها. وإذا وضعت السنة في غير موضعها وفهم منها غير ما يراد أن يفهم منها، لم يعد لهذه السنة معنى، ولذلك حرص رجال السنة على أن يكتبوها ويشرحوها، ومن هنا جاءت شروح كتب السنة المعروفة، وهي بالعشرات، مثل شروح البخاري وشروح مسلم، وشروح السنن الأربع، وشرح الموطأ، وشرح ابن حبان، وشرح مسند الإمام أحمد. وأحد الضوابط الأساسية لفهم السنة فهمًا صحيحًا أن توضع في ضوء القرآن الكريم، فالقرآن هو أصل التشريع، ولا يمكن أن نقبل السنة من حيث الثبوت، أو نفهمها من حيث الدلالة إلا إذا كان القرآن هو الأساس الأول، وإذا وجدنا تعارضًا بين الحديث والقرآن لا يقبل الحديث، فمثلاً روى أبو داود حديثًا صححه الشيخ الألباني رحمه الله، قال: «الوائدة والموءودة في النار» وأنا كقارئ للقرآن أجد قوله تعالى (وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بمعنى أنه لا ذنب لها، فكيف تكون موءودة وتكون مسئولة عن وأدها؟ حيث ارتكبت في حقها جريمة من أبشع الجرائم، قتل طفل بريء بغير نفس، وقتله من جهة أبيه، وقتله بطريقة من أبشع الطرق، فلو ضرب بنته بالسيف فهذا أسهل، ولكن يحفر لها حفرة ويدفنها حية، ما ذنبها؟ ومع هذا الشيخ الألباني قبل هذا الحديث وصححه، لأنه نظر إلى السند فقط، وهذا ليس منهجًا صحيحًا لأنه إذا كان المتن والمضمون مخالفًا لقطعي القرآن لا أقبله. - هل هذا ما يسميه علماء الحديث بأنه الشذوذ أو العلة؟ > هذا يدخل في العلة، فالشذوذ هو أن يروي الثقة مخالفًا من هو أوثق منه، أما العلة فهي نوعان: علة المتن وعلة في السند، ومن هذا تصحيحات الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير، حيث صحح عدة أحاديث تقول إن لحوم البقرة داء وليست دواء، وحكم عليها بأنها صحيحة وليست فقط حسنة، فكيف يكون هذا مع أن الله أحل لحوم البقر وقال: (وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ) وهي من الأنعام (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)، و(الأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) كما أن الرسول ضحى بالبقر، فالقرآن يجب أن يكون في الصدارة، وما يخالف القرآن لا يقبل، وهذا منهج لا بد أن نعترف به ونقره ويؤمن به كل من يريد أن يخدم السنة أو يشرحها للناس.