تبقى وجبة الحريرة هي الأساسية، والمفضلة في شهر الصيام، هي الثابت الذي لم يطله التغيير، لتسم الشهر الفضيل بميسمها الخاص عبر العصور هل لازال «سيدنا رمضان» كما يعظمه آباؤنا يحتفظ بنفس الهالة الروحية التي عهدناه بها ونحن صغار؟ هل يغمر الصغارَ الآن نفسُ الفرح الطفولي الذي كان يراودنا للإقبال على مائدة بسيطة تتكون من: «حريرة وشريحة وشاي، أو من حريرة وحليب وتمر وبعض الخمائر»؟ لا سمك، لا عصائر، لا «سفوف».. وغيرها من المنوعات والمصنفات، حيث تبقى وجبة الحريرة هي الأساسية، والمفضلة في شهر الصيام، هي الثابت الذي لم يطله التغيير، لتسم الشهر الفضيل بميسمها الخاص عبر العصور.. لكن مع ذلك يبقى اختلاف المذاق، وكان هذا عاملا مهما وراء تبادل الحريرة بين الجيران، ويتطوع الأطفال لهذه المهمة الخفيفة، ثم يعودون إلى لعبهم وفرحهم قبيل الآذان وبعده بقليل، حتى لا يكدروا صفو تناول الكبار لوجبتهم، إلا إذا كان الطفل يحتفل بصومه الأول. وكان الأهل يستعملون الحبل لقياس رقبة من حق عليه الصيام ومن وصل البلوغ.. خاصة في البادية. حريرة المدينة وحريرة البادية اتخذت مشاهد الفطور والسحور طابعا هزليا على شكل مقارنات بين رمضان في البادية والمدينة في عدد من نصوص الأدب الشعبي الشفهي، فالبدوي في هذه النصوص الساخرة قوي البنية لا يكفيه طعام في فطور أو سحور، والمديني ضعيف البنية لا يقوى على صوم... والكل في البادية من حجم كبير، القدر أو «الحماس»، التي تطبخ فيها الحريرة حيث استعمال «الخميرة البلدية» يضفي مذاقا حامضا على الحريرة. وهي التي تسهم في امتداد تلك الرائحة العطرة مع بداية الطهي في أجواء الحي أو المدشر، وغالبا أثناء الظهيرة، وشيئا فشيئا تختلط الروائح وتمتزج برائحة الخبز المعد بطريقة تقليدية والقهوة الممزوجة بالتوابل.. قبيل أذان المغرب. كانت الحريرة، سواء الحمراء أو البيضاء، تقدم مع التمر أو الشريحة، في «الزلايف» أو «الجبابن»، ذات اللون الأرجواني المصنوعة من الطين أو الأقداح المنحوتة من الخشب العود أكبر حجما تتحدى الشارب، بحيث يعد من يحتسي إناءين، «بطلا» حقيقيا مع الكثير من الصخب والهمز واللمز، وكانت «الصحة» تسعف البعض فيصل إلى احتساء ثلث القدر، اعتمادا على الملاعق الخشبية، أو ما يسمى ب «المغارف» الخشبية الثقيلة الصفراء المصنوعة من أغصان الليمون أو الزيتون، والتي تميل مع الاستعمال المتكرر إلى السواد فتحافظ على علاقتها الدافئة مع المشروب. وكان الحافز على الإكثار من استهلاك الحريرة توفرها على نسبة معقولة من البقدونس والقسبر الذي يزين مذاقها، إضافة إلى توفرها على كم هائل من القطاني، كالحمص والفول الذي يلتصق بقعر القدر، وهو ما يجعل الطلب يؤكد على «القاع»، ترتشف ثقيلة ساخنة، يسمع لها دوي، لا يزال عالقا بالذاكرة لدى البعض ممن عاشوا في إطار العائلة الممتدة، فتطلع الرشفات كسلاليم موسيقية كلاسيكية ذات إيقاع ساخن، تتوزع بين أفراد العائلة، وهو ما أصبح اليوم في عرف أهل المدن عيبا وسلوكا غير حضاري. كانت الحريرة الخفيفة بالأمس غير مرغوب فيها مقارنة بزمن الحمية هذا خاصة عند أهل المدن، حيث ترتبط شربتهم بسرعة الحياة وبتقشفها، وكذلك أوانيهم المستعملة في هذا الإطار فهي أكثر صغرا، وأشد زخرفة، مصنوعة من الخزف، وملعقات من الإينوكس، أو حديدية بلون رصاصي تزيد من حرارة المشروب، و»طنجرة» الضغط تسرع في إعداد الوجبة في زمن قياسي. تطور صاحب معه أيضا مجموعة أشكال من القطائع في العلاقات الاجتماعية. وظهرت في رمضان أشكال جديدة من الطعام: وجبات مقلية، وطواجين أو أسماك مقلية تستهلك في الفطور حسب الذوق ومستوى المعيشة وتقاليد المنطقة، بالإضافة إلى أنواع عديدة من المشروبات وأصناف الحلويات.. وأصبحت المقاهي بدورها تقدم وجبات فطور كاملة للمسافرين والعزاب والعازفين، هي في مجملها عبارة عن كأس قهوة وبيضة وبضع تمرات وقرص من الرغيف وقطعة من الشباكية وحريرة وكأس من عصير الليمون... مخلوطة ببعض الوجبات شبه الكوميدية التي تقدمها الشاشة الصغيرة.. رفض الحريرة البيضاء الحريرة الحمراء وجبة رئيسية في رمضان، لا يستغنى عنها البعض في الفطور، خاصة عندما تكون الحقول كما يقول فلاح من دكالة محملة بحبات الطماطم الحمراء العالقة بأسرَّتها القصبية، وجذورها المربوطة «بشمايط» بلاستيكية يومها كانت الطماطم تباع بأرخص الأثمان، لا تتعدى عشرة دراهم للصندوق الواحد الذي يتجاوز الثلاثين كيلوغراما، ثم في النهاية تباع «سكيبة» بدون صندوق أو ميزان... هكذا بعد أن عرفت الحريرة الحمراء، وأصبحت البيضاء شبه مرفوضة، نغضب كالأطفال إن لم نجد أمامنا على مائدة الفطور حريرة حمراء، ولا أحد يفكر في شربة الخضر أو الحمية، فقد كان العمل في الحقول والجهد العضلي هو الحمية الحقيقية... حريرة بيو وحريرة محنطة أزمة الطماطم جعلت علب «ماطيشة» المحفوظة تظهر في المدينة أولا وتتعدد أسماؤها، طماطم مطحونة جاهزة للاستعمال قد تقلل من تعب ربات البيوت لكنها قد تقلل من الذوق والطعم... كان ذلك قبل أن تظهر حريرة محنطة، فيها جميع المكونات من توابل ونسمة ومقدنوس وعدس وطماطم.. تنضج في خمس دقائق بعد خلطها بالماء الساخن.. قد تكون مناسبة لسرعة الوقت ووقت قد يكون بلا طعم...