على امتداد شهر رمضان الأبرك، تفتح «المساء» أدبيات مؤسسات دور الرعاية الاجتماعية التي كانت تعرف ب«الخيريات»، بكل ما في هذه التسمية من حمولات قدحية، في محاولة للكشف عن الجانب المشرق لهذه المرافق، وتتبع الممرات الوعرة التي سلكها «وليدات الخيرية» في مسيرة الألف ميل، قبل أن ينتفضوا ضد الفقر والحاجة ويحجزوا لأنفسهم موقعا يمنحهم مكانة اعتبارية داخل المجتمع. ارتبطت دار الأطفال عين الشق في أذهان ساكنة الدارالبيضاء خلال الستينيات بالصرامة، وظلت تنتج مئات الكفاءات في مختلف مناحي الحياة. لهذا انصب اهتمام والدة لحسن ياسير على البحث عن السبل الكفيلة بولوج الدار من أجل وضع ابنها في عهدة «المخزن» وضمان تمدرسه بأقل التكاليف، ولاسيما أنها كانت تتحمل مسؤولية إعالة أسرة كاملة بعد رحيل الوالد. حملت الفكرة إلى شقيقها الذي تقاسمها هذه الهواجس، وأقنعته بضرورة إيداع الطفل لحسن في «خيرية عين الشق» لما عرف عن أبناء هذا المرفق في تلك الفترة من شيم، أبرزها الاعتماد على النفس. فكر مليا في المقترح وشرع في البحث عن الخيط المؤدي إلى الدار. كان شقيق الوالدة يمارس مهنة التدريب داخل فريق «نجم الشباب» لكرة القدم، ويملك بالتالي علاقات واسعة مع مكونات المجتمع. لذا فطن إلى وجود مدير دار الأطفال عين الشق ضمن أطقم التحكيم التي تقود مباريات البطولة، ويتعلق الأمر بالحكم بنشقرون الذي كان يعرفه حق المعرفة. فاتحه في الأمر خلال إحدى المباريات فاستجاب المدير للمطلب. وقبل انطلاقة الموسم في بداية الستينيات، كان الطفل لحسن ضمن المسجلين في الدار، مع توصية من المدير للطاقم التربوي تدعو إلى الاهتمام بالولد ومنحه سبل الاندماج في الفضاء الجديد. «كان عالما جديدا حقا، كنت مترددا في بداية الأمر، وراجت في خاطري مجموعة من الأفكار، كنت أعتقد أن حريتي ستنتهي عند الباب، خاصة وأنني كنت أنظر برهبة إلى النظام الصارم المعتمد في المؤسسة واللباس الموحد والرؤوس الحليقة، لكن نصائح والدتي وخالي كانت ترفع من معنوياتي وتعدني بمستقبل زاهر، فقبلت الانتقال من فضاء الحي الذي لا حدود له إلى فضاء الخيرية». حاول الطفل الأسمر التكيف مع النظام الصارم لهذا المرفق، واقتنع بضرورة الانخراط في هذا المشهد الذي يتحكم فيه، أو كان يتحكم فيه، الانضباط، وكأن المؤسسة صورة مصغرة لثكنة مدنية. «كنا ننتفض كلما سمعنا صوت الجرس، فهو يدعونا إلى الاستيقاظ وإلى التوجه نحو المطعم وإلى حجرات الدراسة داخل الدار وإلى مختلف الأنشطة.. الجرس كان هو المتحكم في تحركاتنا». لم يجد الولد عناء في الاندماج مع هذه الضوابط، التي تجعل الوافدين الجدد يشعرون بأن هامش حريتهم يضيق كل يوم، والفضل في ذلك يعود إلى الجهاز التربوي الذي كان يعتمد على التنشيط كأداة للاندماج. «بنشقرون لم يكن مديرا بالمفهوم السلطوي، كان رجل تربية كثير الاستماع إلى ما يخالجنا، كان رحمه الله يعوض الأبوة المفتقدة حريصا على أن يحول المؤسسة إلى فضاء للتربية والتعليم، مع تكثيف الأنشطة». لعب الحاج بوهلال دورا كبيرا في تقريب الرياضة من النزلاء، وساهم في اكتشاف المواهب التي تزخر بها دار الأطفال، بل وعمل على تخصيص فضاءات للعب نظرا إلى أهميته في بناء شخصية النزيل. وفي الجانب الآخر للتنشيط، كان الثنائي الداسوكين والزعري يشكل واجهة أخرى للتربية. لذا وجد ياسير، إلى جانب رفاقه الجدد، ضالته في الرياضة وبدأ يبحث لنفسه عن موطئ قدم بين رياضيي المؤسسة. استطاع الفتى أن يلفت الأنظار، وتحول حسينة، كما يحلو لأقرانه تلقيبه، إلى واحد من الكفاءات الرياضية للمؤسسة، خاصة وأنه ظل يمارس كل الرياضات بدءا من أم الألعاب إلى أصغر شقائقها. وحين بدأت مواهبه تكبر، وقف في مفترق الطرق ليختار بين الرياضة والدراسة. يقول حسينة إنه فضل الاختيار الرياضي، وقرر التوقف عن الدراسة قبل عام من محطة الباكلوريا، خاصة وأن انضمامه إلى فريق الاتحاد البيضاوي لكرة القدم والكرة الطائرة في مرحلة ثانية وميله الشديد إلى الممارسة الرياضية الرسمية، قد جعلاه «يعلق المحفظة» مبكرا ويتأبط حقيبته الرياضية، خاصة وأنه أصبح، في ظرف وجيز، يحمل صفة لاعب دولي، ليس في كرة السلة فقط بل في الكرة الطائرة أيضا، طاردته الأعطاب في ركبته فباعدته عن كرة القدم، لكنه ظل حاضرا في ملاعب كرة السلة، ولاسيما أنه أصبح لاعبا أساسيا في فريق دار الأطفال منذ نهاية الستينيات، الذي كان مجرد عبور نحو المنتخب الوطني الذي رافقه في رحلة تألق طويلة كلاعب من سنة 1972 إلى غاية 1985، ثم كمدرب لجميع فئات المنتخب منذ اعتزاله اللعب، فضلا عن تدريب مجموعة من الفرق الوطنية من مختلف الأصناف كدار الأطفال والاتحاد الرياضي ولاسمير والنادي البلدي والوداد البيضاوي. «للأسف، تقلص مردود فرق المؤسسات الخيرية، فقد كان فريق دار الأطفال البيضاوية ظاهرة في الستينيات والسبعينيات، كظاهرة الغيوان وغيرها من ظواهر تلك الفترة، بل إننا شاركنا، نحن فريق الخيرية، في بطولة أوربا للفرق البطلة وتنقلنا عبر الطائرة كبقية الفرق ذات الإمكانيات المالية الضخمة، لكن اللاعبين يبحثون دوما عن مصدر عيشهم فينضمون إلى فرق أخرى توفر الشغل». يشغل ياسير مهمة مسؤول رياضي لولاية الدارالبيضاء داخل قطاع التعاون الوطني، مما يتيح له فرصة الارتباط أكثر بالمؤسسات الخيرية، فضلا عن دوره كفاعل جمعوي بمنطقة النواصر التي يقطنها، لكنه يصر على أن ما وصل إليه لا يوازي حجم العطاء.