في عز الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر في التسعينيات، «استحدثت» ما سمي ب«الجماعات الإسلامية المسلحة» (وهو التصور الذي أشاعه النظام الجزائري آنذاك) طقسا مأتميا يقوم على إرسالها قطعةً من صابون داخل خرقة بيضاء لكل من كانت تعتبرهم زنادقة ويستحقون التصفية. كانت لهذه الرسائل وظيفة إفتائية قاتلة. صابون الكف والكفن هما مستهل لغسيل الميت. وكم من الشعراء والكتاب والمثقفين عثروا في صناديق بريدهم على مثل هذه الخرق المأتمية وبداخلها صابونة مارسيليا. لا أعتقد أن الإسلام عرف أو يعترف بمثل هذا الطقس المأتمي. إن العنف الذي بلغ أوجه في تلك الحقبة والذي استند، بالأساس، إلى استراتيجية التسميم والكذب والكذب المضاد بين النظام الجزائري والجماعات الإسلامية المسلحة التي نسب إليها النظام الكثير من المجازر: (تصفية رهبان تيبحرين التي انتفضت تفاعلاتها مؤخرا، أحسن دليل)، أباح كل التجاوزات لشيطنة الخصم. ولم تعرف الدول العربية الإسلامية، إلا في ما ندر، مثل هذا النوع من الممارسة. أعادت الأطراف المتحاربة آنذاك طقسا مافياويا بموجبه يرسل عرابو المافيا إلى خصومهم أظرفة وبداخلها رصاصة من عيار منتقى بعناية وبرمزية ناطقة. ولا يعدو الظرف كونه توقيعا على وفاة المتلقي. إلى عهد قريب، شهدت فرنسا عرفا بتقاليد راسخة باسم «طقس الغربان»، كناية على النحس الذي تتضمنه رسالة تهديد، يبعث بها مجهول إلى خصم بعد أن يكون قد عرى عن أسراره الحميمية. وقد اهتزت فرنسا لأكثر من فضيحة كان من ورائها مجهولون تحدوهم رغبة تشويه سمعة هذه الشخصية السياسية أو ذاك المتهم الذي أخلت العدالة ساحته. وإحدى أشهر القضايا التي اهتزت لها فرنسا لعقود كانت قضية ماري فيلمان. وإلى زمن قريب، بقي هذا الطقس وقفا على النشاط السري لغربان يتلذذون بإرهاق وإرهاب خصومهم الوهميين أو الحقيقيين سريا. لكن في المدة الأخيرة، ظهرت عينة من الابتزازيين الراديكاليين الذين تجرؤوا هذه المرة على وضع الرصاص داخل القرطاس، لتهديد أعلى رموز السلطة في الجهاز السياسي الفرنسي. وكان آخر من تعرض للتهديد بالقتل هو الرئيس نيكولا ساركوزي نفسه، والذي تلقى مؤخرا خرطوشة صيد من العيار الكبير في ظرف تمت مراقبته في أحد مراكز العزل البريدي بمدينة مونبولييه. الشيء الذي استدعى تدخل القسم المضاد للإرهاب التابع لمحكمة باريس. وبداخل الظرف كلمة تقول: «أهلا، لم نَنْسك». كما تشير الرسالة إلى بعض أفراد عائلة ساركوزي، وبخاصة ابنه جان وشخصيات من حزبه أو مقربة إليه، أمثال جان-فرانسوا كوبي، فريديريك لوفيفر، فريديريك ميتران، ميشال روكار.. وتتابع الرسالة الموقعة من طرف مجموعة تطلق على نفسها «خلية 34»: «اليوم سيختفي الملك ساركوزي وحاشيته... وزمن التحرير يسير في طريقه». إن اختلفت التقنية، فإن الهدف يبقى واحدا: الترعيب. ولم ينج لا رئيس حزب ولا مسؤول سياسي فرنسي من هذا النوع من التهديدات التي تعطي الانطباع أحيانا بأنها لعبة صبيان أو لعبة مرضى سيكوباتولوجيين. غير أنه لا مجال للمقارنة بين ظاهرة التهديد بالقتل في فرنسا وما يحدث بالولايات المتحدةالأمريكية، حيث الظاهرة اجتماعية وتمس كل الشرائح والأفراد والمؤسسات. وقد عملت هوليود على تحويلها إلى مادة رعب وتشويق. كما أن المافيا رسخت تقاليد الثأر والثأر المضاد في خلايا نسيج المجتمع. فعلى صعيد هرم السلطة، يتلقى الرئيس باراك أوباما 30 رسالة تهديد يوميا، إذ تبعا لكتاب رونالد كيسلر الذي يحمل عنوان In the president secret service، فإن التهديدات الموجهة إلى الرئيس ارتفعت بنسبة 400 في المائة منذ وصوله إلى البيت الأبيض. فيما بلغ معدل رسائل التهديد الموجهة إلى الرئيس بوش تسعة رسائل تهديد بالقتل يوميا فقط. في كل الحالات، يقف من وراء هذه الممارسة أشخاص يعرفون باسم cyber-criminels، افتقدوا اعتراف الدولة والمجتمع ثم انكمشوا في الخفاء لنسج مخططات الترهيب. وفي أفق إدراكهم: الموت شهداء.