كلّ ما يحكى عن التسامح وتجاوز الحساسيات الدينية في الجرائد والكتب والجامعات الفرنسية مجرد هراء؟ بعد عام أو عامين في القارة العجوز، سرعان ما تكتشف أن الذاكرة والدين يشكلان عاملين حاسمين في كل تفاصيل الحياة. من البحث عن العمل إلى التفتيش عن سكن أو حتى شرب قهوة في تيراس مقهى أو مجرد إلقاء التحية. التعامل مع الأمريكي اللاتيني أو الأوربي الشرقي لا يشبه التعامل مع العربي في شيء. كما أن البرتغالي ليس هو التركي مثلا. رغم أن الأتراك أوربيون بحكم التاريخ والجغرافيا ويودون اقتسام المستقبل مع جيرانهم فسيبقون على الهامش إلى ما شاء الله. لماذا؟ لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مسحت قلبي مما علاه من غبار، رسمت على وجهي ابتسامة جنتلمان رقيق وقررت أن أفتش عمّا تخبئه ابتسامة فيرجينيا من مفاجآت. لم أكن أملك بيتا. كنت مجرد لاجئ جوال بين غرف الأصدقاء والعائلة في مناطق متفرقة. لذلك دعوت فيرجينيا إلى العشاء في غرفة صديقي فؤاد. فؤاد يقطن في ضاحية نائية بمحاذاة منطقة تدعى بونطو كومبو. الناس هنا يسمونها «بورطو كومبوس» لأنها آهلة بالبرتغاليين. البرتغاليون أكبر جالية أجنبية في فرنسا. عددهم يفوق عدد الجزائريين دون أن ينتبه لذلك أحد. يحترفون مهنا لا تقل وضاعة عما يقوم به العرب والسود. مشهورون على الخصوص بأشغال البناء وحراسة العمارات. بيد أنهم، على خلاف العرب، يندمجون بسرعة داخل المجتمع الفرنسي. لأنهم أوربيون ومسيحيون على الخصوص. هل تعرف أن كلّ ما يحكى عن التسامح وتجاوز الحساسيات الدينية في الجرائد والكتب والجامعات الفرنسية مجرد هراء؟ بعد عام أو عامين في القارة العجوز، سرعان ما تكتشف أن الذاكرة والدين يشكلان عاملين حاسمين في كل تفاصيل الحياة. من البحث عن العمل إلى التفتيش عن سكن أو حتى شرب قهوة في تيراس مقهى أو مجرد إلقاء التحية. التعامل مع الأمريكي اللاتيني أو الأوربي الشرقي لا يشبه التعامل مع العربي في شيء. كما أن البرتغالي ليس هو التركي مثلا. رغم أن الأتراك أوربيون بحكم التاريخ والجغرافيا ويودون اقتسام المستقبل مع جيرانهم فسيبقون على الهامش إلى ما شاء الله. لماذا؟ لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولو بنبرة عربية مكسرة. لن يحصلوا أبدا على بطاقة الإنخراط في هذا النادي المخصص للمسيحيين البيض الذي يسمى «الاتحاد الأوربي»، وقد قالها لهم جيسكار ديستان صراحة وسيقولها الملايين جهرا وسرا في الاقتراعات والاستفتاءات المخصصة لذلك. لا أعرف لماذا اعتقدت دائما أن المغاربة أرفع شأنا من البرتغاليين. هل لأن كتب المدرسة كانت كل عام تذكرنا كيف فتك أجدادنا بملكهم دون سيباستيان سنة 1578 في وادي المخازن؟ تبدو اليوم مضحكة هذه المعركة: تصوروا حربا يموت فيها ثلاثة ملوك دفعة واحدة. لقد كان الحكام فرسانا حقيقيين أيام السيوف والنبال والكر والفر والخيول والغنائم. في ذلك الزمان، كان الملك يقف في الخط الأول للقتال. يرفع سيفه وحنجرته ليرهب الخصم. الحكّام اليوم جبناء ومحتالون، يجلسون في مكاتب مكيّفة وينتظرون الأخبار. وفي الوقت المناسب من الهزيمة يعقدون صفقة مع العدو، على جثث الجنود البسطاء. بدأ الفيلم يكشف عن سلوكات أبطاله بالتدريج. وصلنا إلى محطة القطار في لاكار دو نور (محطة الشمال). أردنا أن نركب القطار E في اتجاه لوبليسي تريفيس حيث غرفة فؤاد. أشهرت تذكرة تنقلي التي تكلفني كل شهر أكثر من ستين أورو. تقدمت نحو الحاجز الحديدي كي أدخلها في الآلة المغناطيسية وأفتح الحاجز. كنت على علم بأن فيرجينيا لا تملك تذكرة شهرية مثلنا تسمح لها بأن تركب في هذا الاتجاه البعيد. بيد أنني تجاهلت الأمر: لتشتري تذكرة من جيبها، لقد دعوتها للعشاء لكنني لم أقل أبدا إن التنقل على حسابي... أنا لا أنظم مهرجانا! غير أن فؤاد انتبه إلى ارتباك فيرجينيا أمام الحاجز وقال لي، بمنتهى الحقارة، إن الفتاة لا تملك تذكرة ويجدر أن أقتني لها واحدة كي لا ينكّل بها مراقبو التذاكر. قال ذلك في مزيج من العربية والفرنسية. اشتد حنقي عليه لكن النذل كان قد تمكن من إثارة كبريائي، فاتجهت رأسا إلى شبّاك التذاكر. وصلنا إلى آخر محطة. عرّجنا على محل فران بّري المجاور كي نشتري بعض لوازم ليلتنا الحمقاء. في الخارج، كانت الريح تصفر مثل موسيقى رديئة وفيرجينيا ضائعة وسط معطفها القوقازي الثقيل. تنظر إلينا مثل معتوهة وتبتسم. تتفحص المواد المصفوفة بعناية في رفوف فران بّري وتبتسم. بشعرها الأشقر الطويل وعينيها الخضراوين، تبدو مشعة كشمس. لكن بمجرد ما تشرع في الكلام تسقط الشمس في مستنقع. تكتشف فتاة بدوية مملة. بدوية حسناء، ثقيلة الظل. هذه هي فيرجينيا، لذلك لم يفارقها بعينيه حارس السوبرمارشي الأسود الثخين. لم ينزل بنظراته عن جسدها ذلك المكبوت. أما هي فقد كانت تبادله النظرات... وتبتسم !