نتائج انتخابات اللجنة المركزية لحركة «فتح» أكدت حدوث عملية تغيير كبيرة في الوجوه القيادية، حيث خرجت رموز الحرس القديم ودخلت دماء شابة جديدة، لكن مدى انعكاس ذلك على السياسات ما زال موضع اختبار. لا شك أن انعقاد مؤتمر «فتح» العام كان مكسباً كبيراً للرئيس الفلسطيني محمود عباس، حيث خرج منه أقوى وأكثر شرعية مما كان عليه حاله قبله، كما أن حركة «فتح» استعادت الكثير من مكانتها التي افتقدتها طوال السنوات الماضية لمصلحة منافستها حركة «حماس». لا بد من الاعتراف بأن وصول أربعة عشر عضواً جديداً إلى مقاعد اللجنة المركزية واحتفاظ أربعة من الأعضاء القدامى بمقاعدهم جاء مفاجأة للكثيرين، خاصة وأن من بين الأعضاء الجدد شخصيات تتمتع بمواقف مستقلة وتتطلع إلى إعادة الحركة إلى وهجها التاريخي الذي جعلها تقود العمل السياسي والنضالي الفلسطيني لأكثر من أربعين عاماً. الرئيس محمود عباس أقدم على مقامرة كبيرة بالمضي قدماً في عقد المؤتمر في بيت لحم، في تحد واضح للحرس القديم الذي أراده خارج الأراضي المحتلة، وجاءت النتائج مبهرة، من حيث التنظيم وتجديد شباب الحركة وتعزيز وحدتها الداخلية، بعد أن راهن الكثيرون على تمزقها وتفتتها. لا شك أن هذا النجاح، ورغم بعض التحفظات، سيضع الحركة في موقع قوي في حال حدوث انتخابات رئاسية أو تشريعية جديدة مستقبلية، خاصة مع مطلع العام المقبل، حيث تنتهي صلاحية المجلس التشريعي الحالي ورئاسة السلطة. صحيح أن بعض رموز الفساد، التي أضرت بحركة «فتح» وهزت صورتها في أوساط الرأي العام الفلسطيني وخسّرتها الأغلبية في المجلس التشريعي والسيطرة على قطاع غزة، نجحت في الانتخابات ووصلت إلى اللجنة المركزية عبر صناديق الاقتراع وفق حسابات وتحالفات محسوبة، ولكن الصحيح أيضاً أن بعض الرموز الفتحاوية الوطنية، المشهود لها بنظافة اليد واللسان، استطاعت أن تفرض نفسها وتحتل مكاناً بارزاً في القيادة الجديدة. وهناك أسماء عديدة يمكن ذكرها في هذا المضمار، مثل محمود العالول الذي حصل على أعلى الأصوات بعد أبو ماهر غنيم، أحد قيادات الحركة التاريخية، وعثمان أبو غربية وعزام الأحمد وناصر القدوة وجبريل الرجوب ومحمد المدني، والقائمة تطول. كانت هناك قيادات فتحاوية شابة أخرى تستحق أن تنضم إلى اللجنة المركزية ولم يحالفها الحظ، مثل حسام خضر وأشرف جمعة وأحمد نصر ومنير المقدح وآخرين، لكن الفرصة ما زالت أمامهم متاحة لأخذ دورهم في مؤتمرات قادمة. إن التطور الأهم في رأينا هو أن الرئيس محمود عباس، ورغم جمعه لمختلف المراكز القيادية في شخصه، لن يملك الحرية المطلقة التي كان يتمتع بها في السابق في التفرد بالقرار، فقد بات ملزماً بالرجوع إلى المؤسسات الفتحاوية واللجنة المركزية، والمجلس الثوري على وجه الخصوص، للتشاور والتنسيق قبل الإقدام على أي خطوة سياسية كبيرة. اللجنة المركزية الجديدة وكذلك المجلس الثوري، الذي هو برلمان مصغر للحركة، لن يكونا مجرد «بصّامة» لسياسات الرئيس عباس أو أي رئيس آخر غيره، مثلما كان عليه الحال في المستقبل، فالوجوه الجديدةالشابة التي تحتل مكانتها في مقاعدهما ستلجأ الى المحاسبة والمساءلة ولن تسمح باختطاف الحركة وقرارها من قبل بعض الطارئين عليها. الرئيس محمود عباس يجب أن يتأقلم مع الوضع الجديد بسرعة، وأن يتقبل النتائج بطريقة مسؤولة، من حيث استغلالها لإجراء تغييرات واسعة وجذرية في نهجه السياسي العقيم الذي لم يحقق أيا من الوعود التي أطلقها للقاعدة الفتحاوية والشعب الفلسطيني، مثل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وإزالة المستوطنات، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. حركة «فتح» باتت في موقع قوي يؤهلها لاستعادة هيبتها ومكانتها، والتعاطي مع الغرور الإسرائيلي من موقع أكثر قوة، وممارسة كل أشكال المقاومة وبأسرع وقت ممكن، بعد أن تأكد للجميع فشل النهج التفاوضي، وتحقيقه نتائج عكسية على الأرض، بما في ذلك تشجيع التطرف في إسرائيل وبناء المزيد من المستوطنات وإحكام الخناق على القدسالمحتلة والشعب الفلسطيني. نقطة أخيرة لا تقل أهمية عن النقاط السابقة، وهي ضرورة إقدام القيادة الفتحاوية الجديدة على الدفع باتجاه تحقيق المصالحة الفلسطينية ووضع حد لحالة الانقسام الراهنة، خاصة وأن برنامجها السياسي أكد أن تناقضها الوحيد هو مع إسرائيل، أما التناقضات الأخرى فهي ثانوية يجب أن تحل بالحوار. والمقصود بالحوار هنا هو حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، والمأمول أن يبدأ هذا الحوار فوراً وبروحية جديدة مقرونة بالإصرار على النجاح هذه المرة.