هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات. أصغى طوال اليوم إلى القادة أو أعضاء المجالس، وكل منهم يؤيد هذا القرار أو ذاك، حتى إذا قال الجميع كلمتهم، نهض عبد الكريم ليتكلم. وعلى الرغم من كونه المنتصر في أبران دايغريبن وأنوال، فإن مرتبته لم تكن سوى قاضي مدينة صغيرة. إن إنجازه العظيم يؤكده طاعة المجلس لقيادته غير الشعبية. لقد أصدر عبد الكريم أمره بكل هدوء، متوقعا أن يطاع. وكان ذلك قرارا عاش كي يؤهله، لكنه لم يأسف له مطلقا. كانت الأنباء الأولى عن الكارثة التي وصلت إلى تطوان مشوشة وغامضة. وتحدث الهاربون من سيدي ادريس عن إفناء جيش سيلفستر، وعن مقتل الجنرال. ولم يصدق بيرنجر هذه الأنباء، فتقارير سيلفستر لم تلمح مطلقا إلى أن الوضع على شيء من الخطورة ؛ كانت ايغريبن محاصرة من قبل بضع مئات من رجال القبائل فقط. أما الآن، فإن سيلفستر قد قضى، بينما أصاب الفناء جيشه أو ولى الأدبار. ونقل المفوض السامي الأنباء إلى إسبانيا، ثم انهمك في إعداد رتل للإغاثة. وجاء تقرير لاحق يعرض مدى الكارثة الكامل. لقد استسلم الجنرال نافارو، ولم يعد يقف بين مليلا والريفيين الظافرين المتدفقين بالألوف من الجبال سوى عدد ضئيل من الجنود. وأصدر بيرنجر أمره إلى الترسيو، الفرقة الأجنبية، بالتوجه إلى سبتة وركوب البحر إلى مليلا. واستقبل الشعب الإسباني الأنباء بصيحات الغضب. إن جيشا كاملا قد محي من الوجود من قبل جنس بدائي عاجز عن صنع سلاح حديث. تلك كانت الكارثة العسكرية الكبرى التي منيت بها دولة استعمارية منذ خمس وعشرين سنة، أي منذ أن دمر الحبشيون جيشا إيطاليا في أداوا. وانتشرت الشائعات في مدريد تتحدث عن فضائح مختلفة وعن اشتراك الملك في الجريمة. إن الشعب الإسباني، الذي أصابه الذهول وحل به العار، قد بدأ يضع الأمور في نصابها الحقيقي. وأمسكت حكومة وطنية بدفة الحكم، وأرسلت قوة إغاثة على جناح السرعة إلى مليلا. وكان مقررا أن يخطب السفير الإسباني في لندن في الجمعية الجغرافية الملكية ليلة تلقت لندن أنباء أنوال، ولما طلب منه أن يعلل الهزيمة، تغاضى عنها على اعتبارها «حدثا من أحداث الحرب الاستعمارية». ولم تمض إلا أيام قليلة حتى طوقت السفارة الإسبانية من قبل متطوعين كانوا ينادون بتسجيلهم في الفرقة الإسبانية الأجنبية. «إن مليلا على وشك السقوط»، هذا ما أعلنه المقدم ميلان – استريي، قائد الفرقة في تطوان، لآمر الكتيبة الأولى الرائد فرنشسكو فرانكو. وإنه ليخبر مرؤوسيه قائلا: «لم يبق شيء البتة، فقد هزم جيش سيلفستر، وأصبحت المدينة بدون دفاع، وفقد الناس صوابهم». وقطع ثمانية آلاف جندي من أفراد الفرقة المائة كيلومتر الفاصلة بين تطوانوسبتة في أربع وعشرين ساعة، وكان في عدادهم مهندس برتبة عريف يدعى أرتورو باريا. كتب باريا كتبا عديدة تبحث في تجاربه مع الجيش الإسباني في مراكش، وقد ترجم منها كتاب الدرب إلى اللغة الإنكليزية. ويقول المؤلف إن معظم الجنود الإسبانيين كانوا في سن العشرين، وقد كانوا في مراكش لسبب واحد، ألا وهو أنهم في العشرين من العمر، وهي سن الجندية الإجبارية، وما كان في مقدورهم أن يجدوا تعليلا آخر لوجودهم هناك. كانوا يسألون: «لماذا ينبغي لنا أن نحارب العرب؟ لماذا يجب علينا أن نمدنهم إذا كانوا لا يريدون المدنية؟» وكان ذلك هراء، فهم أنفسهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، وكانوا يشكون مستفسرين: «من يمدننا؟ أين نحن من قشطالة، من أندلوسيا، من جبال جيرونا؟ ليس في قريتنا مدرسة، ومنازلها مبنية من الطين، ونحن ننام في ثيابنا على الأرض بجانب البغال، طلبا للدفء. وإننا لنأكل بصلة وكسرة من الخبز في الصباح، ونمضي للعمل في الحقول من شروق الشمس حتى غروبها».