طرح سؤال السلطة في المغرب السلطاني لازال يحمل طابع «العمل الفدائي». ومنهجيا، ينبغي على الباحث الذي يستسيغ مجازفة كهذه، أن يقارب الموضوع بعيدا عن كل دعوة أو انتماء، مستعينا بعُدّة منهجية متنوعة. صحيح أن نسائم الانفتاح بدأت تهب على استحياء هنا وهناك، بعد عقود كان فيها المجال العمومي حكرا على الملك/الدولة على لازمة لويس الرابع عشر، غير أن الاختفاء غير المنطقي وغير المفهوم للمعارضة الحزبية أدخل الموضوع في زاوية المزايدات السياسوية، حين يطرح فقط على سبيل المناورة أو الضغط قبيل كل تعديل حكومي أو انتخابات، بدل أن يكون موضوع نقاش وطني يعزز فعليا ثقافة طي صفحة الماضي. لذلك، فإن القصد من هذا القول هو أن نجيب عن تساؤلات تستمد راهنيتها من الإشكالات التي لازالت تطرحها السلطة في العهد الجديد، وأهمها: هل شهد المغرب تحولا حقيقيا في شكل السلطة؟ هل سيكون الاحتفال بمرور العشرية الأولى للعهد الجديد مناسبة للدفع بإصلاحات دستورية تعزز دولة المؤسسات بعيدا عن النوايا الطيبة؟ أم إننا سندخل العشرية الثانية على نفس إيقاعات الالتباس السائدة اليوم؟ لا شك في كون الالتباس هو المناخ الأنسب للتسلط والهيمنة حين لا تكون السلطة مبنية على تعاقدات واضحة دستوريا، فحين يسود الالتباس وتكثر مناطق الظل والعتمة وينتشر السديم في زوايا الحياة العامة، تنمو الحاجة إلى التأويل، فينتعش العسف والتسلط باسم هذا التأويل أو ذاك عند المسؤولين، وتنتشر قيم الوصولية واللامبالاة عند المحكومين، وهذه هي لازمة كل قول يروم تشخيص السلطة في مغرب اليوم. فإذا كانت الدولة الحديثة قد استطاعت أن تقضي، إلى حد كبير، على مناخ الالتباس هذا بسنها قواعد شفافة للتداول على السلطة وسيادة القانون ومَأسسة العدالة الاجتماعية وإرساء قيم المواطنة، ونالت بهذا إجماعا لم يتحقق لنظيراتها في التاريخ، فإن مغرب اليوم لازال لم ينعم بعد بهذه النعمة، مما جعله مجالا لصراع التأويلات المناقضة لدرب الدولة الحديثة. ووجه الالتباس هو أن قواعد السياسة فيه ملزمة للجميع إلا النظام ذاته، فهو غير ملزم بها إطلاقا، باسم الحداثة أحيانا وباسم الخصوصية المغربية أحايين كثيرة، ولا أدل على هذا أن كل التحولات التي شهدتها الدولة في تدبيرها للمجال العمومي، سواء في المجال الحكومي أو الحقوقي والثقافي، بقيت سجينة للإرادة الطيبة التي أبان عنها النظام أكثر من مرة؛ ولأنها بقيت نوايا فقط، فإنه لا أحد من اللاعبين السياسيين يملك الجرأة على المطالبة بتعديلات دستورية واضحة اللغة، تستوعب هذه «الإرادة الطيبة» وتجعلها منطلقا لتعاقد سياسي عملي يطمئن الجميع. فعندما اقترح المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي تقديم وثيقة المطالبة بالإصلاحات الدستورية، جاء المنع من كاتبه الأول، وقبله لما طرحت المسألة إعلاميا، فإن الرد لم يأت من النظام بل أتى من حزب يقود حكومة تجسد فعليا هذا الالتباس، وطريقة الفاسي وصهره في الرد على هذه المبادرة، على خجلها، تشي فعلا بأن هناك دوما من يستفيد من العتمة، وإلا هل كان عباس الفاسي وآله على يقين من أنهم سيقودون الحكومة حتى بعد تأكد فوزهم في الانتخابات؟ هل للفاسي أن يدلنا على نقطة واحدة في برنامجه الحكومي تجسد فعلا استقلالية قراره واستحقاقه لثقة الجموع التي انتخبته؟ بم يفسرون الشك الذي راود الجميع تجاه تعيين وزير أول حزبي؟ وفي مستوى آخر، من منا يستطيع فهم مطالبة الهمة بتعديل دستوري في وقت سابق، وفي نفس الوقت التأكيد على أن الخصوصية المغربية تجعل من فصل السلط مسألة غير مقبولة، إذن سنعدل ماذا؟ إن ميزة نظام القرن الماضي هي أنه كان ذا إجماع مستمد من مرجعية الأدب السلطاني بشكل واضح، فحين كانت محبة الناس غير متيسرة له، فإن تخويف الشعب من السياسة وترهيبه من الخوض في قضايا الشأن العام لم يكن قط ليخطىء غايته، «فالمغربي إذا خاف تعقل»، حسب ما صرح به الملك الراحل في «ذاكرة ملك». إن من يقرأ كتاب «تحول السلطة»، ل«ألن توفلر»، يجد نفسه إزاء حقائق كثيرة، تتعلق بالأشكال المقبلة للسلطة في العالم، حقائق أغلبها صادم لنا نحن مواطني الأنظمة العتيقة، والأهم هو أنه في غمرة كل التفاصيل والإيقاعات التنبئية التي يفرضها الكتاب على أفهامنا، فإنه لا يمكننا إلا أن نقلق على حالنا في المغرب لأن «اللعب قاصح علينا» فعلا، بالتعبير الدارج.. لا شك في أن توفلر كان أحد المراجع التي اعتمد عليها من أبدعوا ما عرف في المغرب ب«المفهوم الجديد للسلطة»، لكن المفارقة هي أننا في المغرب لم نتجاوز بعد عتبة الإشكال السياسي، وندعي الحداثة، فمتى نصمت عن هذا الادعاء، ونقبل بأن نكون تلاميذ في الصف الأول لتعلم ألفباء الحداثة السياسية.