أحيانا أختلف مع الآخرين في فهم نص معين. كل منا عند القراءة تكون بينه وبين النص روابط وخيوط خفية يدركها بحسه الأدبي والإنساني ،هذه الروابط قد تتلاقى، مع نصوص معينة، أو تتباعد مع أخرى، وهذا حقٌ أي قارئ أو أي متلقي. ما زلت أذكر قصة عبد الله المتقي «الخنز» في مجموعته القصصية « الكرسي الأزرق» ص60: « الغرفة شاحبة / الصمت مقلق / الرائحة خانزة / وكان متكوما فوق السرير، يستشعر قرحة النتانة بداخله / ضوء الغرفة أصفر ناصع الآن / الرائحة تكتسح الغرفة / لم يجمع وقفته / لم يتفقد فم المرحاض/ ولا قمامة الأزبال بحثا عن مصدر الرائحة / فقط/ كان يعرف أنها بداخله / وتتسرب عبر مسامه إلى الخارج». هذه القصة وما تركت خلفها من روائح، ما زالت عابقة في ذاكرتي، فقد تركت عندي سؤالا مهماَ، يا ترى ما هو الأهم بالنسبة إلى الإنسان: نظافة بدنه، أم نظافة روحه؟ ساترك لكم هذا السؤال المفتوح. قصص عبد الله المتقي دعوة لكشف الذات والوقوف على خباياها. فمن مجموعته «الكرسي الأزرق» إلى «قليل من الملائكة» نرى الأسئلة أكثر امتدادا، أكثر عمقا، تكشف الخفايا التي ترقد في الأعماق، وما على المرء إلا أن يطّهر ذاتة ويحررها ! قصص بلا نهايات: وهذا ما نراه ونلمسه في» قليل من الملائكة». في قصته ماء الفلسفة، هذه القصة تذكرنا بأولادنا، وتعيدنا إلى مستوى الوعي الذي نحمله ،لا يمكن الاجابة عن سؤال يتعلق بالخلق لأن الخلق من صنع الخالق ولا مجال لفتح باب الحوار ، تُقفل العقول ،ُتمنع الأسئلة! «المطر ينقر زجاج النافذة خفيفا... الطفل : من أين يأتي ماء المطر؟ الأم : من السحب الطفل : ومن أين تأتي السحب؟ الأم : من الماء فغر الطفل فاه في حيرة بريئة، ولم يفهم...» ص 15 نص مفعم بالحقيقة والحياة، فقراءة النص هي تحليل آخر لقراءة الذات، هذه القراءة تكشف المغاور البعيدة في الوعي الإنساني، فالكشف رؤيا، كما المرايا، والذات، هي مرآة تعكس ما تتلقاه ،ففي المرايا نرى الزيف وفي المرايا نرى الحقيقة وإلا كيف نفهم، لماذا مات نرسيس؟ هل مات انتحارا؟ أم مات في سبيل الوصول إلى الحقيقة؟ والقبض على الوجه التائه في مراياه. هكذا، في الأسئلة التي لا نجد القدرة على فتح حوار فيها، أو بالصدق، عن سؤال يوجه إلينا إذا كان يتعلق بالخالق. ملائكة عبد المتقي القليلة، لم تنس مليكة مستظرف أدواتها السحرية «مسودات قصصية وجثة غارقة في الموت « هكذا تبدو ملليكة مستظرف في حضورها الشفاف المرئي في عيون ملائكة قد تكون تقرأ قصصها اليوم ...! في خطوات عبد المتقي نجد الخوف ،من كل ما هو غريب وجديد، فقد تكون المعرفة في حد ذاتها، في عالمنا اليوم، تشكل خوفاً، بل هي حقيقة، تشكل خوفا. النظر إلى الماضي بعين ثاقبة هو خوفٌ، لأننا لا نجرؤ على الرؤية بوضوح والنظر إلى المستقبل بعين مفتوحة.وهذا ما نراه في قصة « خطوات» ص69: في زقاق أسود، سمع خطوة خفيفة خلفه، ولم يلتفت. تكاثرت خلفه الخطوات، وكان عليه أن يلتفت، لكنه لا يملك الشجاعة، شعر بأنفاس دافئة تلفح قفاه، كاد يلتفت، لكن خوفه كان كبيرا كالجبل، توهم ما يشبه أصابع خشنة تتهيأ كي تخنقه، ثم التفت سريعا: أ كان مجرد خيال؛ ب كان مجرد هلوسة؛ ج كان مجرد خوف من المعرفة». وهكذا نمضي مع قليل من الملائكة، في اختصار حقيقي للذات ما بين الواقع والمرايا، تأخذنا الصورة الواقعية التي تكشف ما أخفته النفس في ثناياها وأغوارها. القارئ يقرا النص، قد يكون هو البطل، قد يكون هو الشاهد. هذه القصص القصيرة جدا، تؤكد حضورها والتماعها في وقت راهن الكثير فيه على ضعفها وعدم قدرتها على مجاراة الرواية أو حتى القصة القصيرة . ويمكن أن نقول بان القصة القصيرة جدا، مثل عين الكاميرا الصغيرة، تلتقط الصورة، بمجمل أبعادها وهذا ما رأيناه في «قليل من الملائكة» مع العنوان بدلالاته الغنية، أعطانا قدرة للتعرف على صور جديدة، في حياة قلت فيها الملائكة وجاء دور الشياطين ليعيثوا فسادا في عالم انفتحت أبوابه على العنف والدمار.