جميع الأحزاب السياسية المغربية من حقها أن تنتقد وتعبر عن استيائها من رسالة برلماني العدالة والتنمية الموجهة إلى السفير الفرنسي بخصوص حالة المستشار المصاب في أحداث وجدة الانتخابية، إلا حزب الاستقلال ليس من حقه ذلك. ببساطة لأن بيت حزب عباس الفاسي من زجاج، ولذلك فعليه أن يتجنب رمي الآخرين بالحجارة. ولعل ما يدعو إلى الدهشة هو أن اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ختمت اجتماعها الطارئ لمناقشة تداعيات الرسالة باتخاذ موقف موحد هو «تسجيل الاستياء الكبير من التصرف اللامسؤول وغير المقبول سياسيا وأخلاقيا، والذي يمس بالشعور الوطني ويخل بمعاني التعلق بالوطن واحترام قيمه ومؤسساته». أولا، كان على حزب الاستقلال أن يخجل من نفسه ويمتنع عن الكلام، وهذا أضعف الإيمان، لأنه لم يستطع أن ينطق بنصف كلمة عندما أقيل كاتب دولته من وزارة الخارجية عندما انكشف أمر جمعه بين الجنسيتين المغربية والإسبانية، وهو الذي يشتغل في وزارة تشرف على المفاوضات في ملف الصحراء المغربية الذي تعتبر إسبانيا طرفا خفيا فيه. فكيف يعقل أن يحمل موظف سام ككاتب الدولة في الخارجية المغربية جواز سفر دولة كإسبانيا لا تذخر جهدا في مساندة الجمعيات الموالية للبوليساريو ماديا ومعنويا. هل هذا التصرف مسؤول ومقبول سياسيا وأخلاقيا ولا يمس بالشعور الوطني ولا يخل بمعاني التعلق بالوطن واحترام قيمه ومؤسساته؟ إذا كان الجواب بالنفي، فلماذا لم تجتمع اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بشكل طارئ عندما صدر قرار إعفاء أحمد الخريف، عضو الحزب، لفصله والاعتراف بخطئه الجسيم. أليس حصول استقلالي يشغل منصب كاتب للدولة في الخارجية على الجنسية الإسبانية أخطر بكثير من مراسلة نائب برلماني ينتمي إلى العدالة والتنمية للسفير الفرنسي بخصوص الحالة الصحية المستعجلة لمستشار من نفس الحزب يحمل الجنسية الفرنسية. وليس خافيا على أحد أن حزب الاستقلال رأى في قضية الرسالة فرصة لكي «يشيد بالروح الوطنية العالية التي تحلى بها المستشارون الاستقلاليون بوجدة»، أي أنه بمعنى من المعاني يدين الروح الوطنية الهابطة التي تحلى بها مستشارو العدالة والتنمية بوجدة. إن حزب الاستقلال هو آخر من يحق له إعطاء دروس للآخرين عن الروح الوطنية العالية، خصوصا بعد أن «هبط» نزار بركة، وزير الشؤون العامة للحكومة، مؤخرا هذه الروح بمساعدة من «نسيبو» الوزير الأول عباس الفاسي، وهما معا ينتميان إلى العائلة الاستقلالية التي حفظت الوطنية في اسمها أبا عن جد، عندما قدما هدية مالية من أموال الشعب قدرها سبعة ملايير سنتيم كدعم عن السكر لشركة كوكاكولا الأمريكية وباقي شركات المشروبات «الغازية»، من الغاز طبعا وليس من الغزو. عاشت الروح الوطنية العالية لوزراء حزب الاستقلال. «ونزيدكم»، ما دمنا نتحدث عن الوطنية المفترى عليها، بماذا يمكن أن يبرر كريم غلاب، وزير النقل والتجهيز الاستقلالي، الذي يشرف على قطاع النقل الجوي، الإضراب الذي يخوضه ربابنة الخطوط الجوية الملكية من أجل مغربة منصب ربان طائرة الذي يستحوذ عليه الأجانب. إن هذا الإضراب يكلف خزينة الشركة مليار سنتيم يوميا، ومع ذلك يصر بنهيمة مدير «لارام» على تجاهل مطلب الربابنة والحد من توظيف الأجانب في منصب ربان طائرة، مع أن الربابنة المغاربة لديهم الكفاءة المطلوبة ويتوفرون على عدد ساعات التحليق المطلوبة كشرط لشغل هذا المنصب. نحن نعرف أن «بنهيمة» تجري في عروقه دماء فرنسية من جهة والدته، وأن أواصر القرابة العائلية التي تجمعه بأنسابه في الجمهورية الفرنسية توازي في متانتها أواصر القرابة التي تجمعه بعائلة بنهيمة المخزنية. لكن هذه الأواصر العائلية الفرنسية لا يجب أن تميل إلى جانب تشغيل العمالة الأجنبية في مناصب القيادة بطائرات الشركة التي يديرها، على حساب العمالة الوطنية التي يجب أن تكون لها الأسبقية في كل شيء. ماذا صنع كريم غلاب الاستقلالي وأمينه العام في الحزب الحريص على «الروح الوطنية العالية»، لكي يسترد منصب ربان طائرة من الأيادي الأجنبية ويرده إلى الأيادي الوطنية التي تستحقه. لا شيء. كل ما فعله عباس الفاسي ووزيره في النقل والتجهيز هو أنهما نشرا مقالا سخيفا في جريدة الحزب يتهمان فيه نقابة الربابنة بعدم الرغبة في استئناف جلسات الحوار. وهو الحوار الذي غادره الربابنة عندما اكتشفوا أن الإدارة جلست تحاورهم لحظات قليلة بعد إكمال إجراءات توظيف أجنبي جديد في منصب ربان طائرة. حزب الاستقلال، الذي يتشدق اليوم ب«الوطنية العالية»، هو الحزب نفسه الذي هجر أبناء قيادييه مقاعد التعليم العمومي الوطني وفضلوا متابعة دراستهم في مدارس البعثة الفرنسية. وكل من يريد أن يتعرف على أسماء العائلة الاستقلالية التي تخرجت من مدارس البعثة «من أبناء عباس الفاسي ونتا هابط»، ما عليه سوى أن يراجع العنوان الإلكتروني لمدارس البعثة الفرنسية بالمغرب، لكي يكتشف أسماء أبناء الوزراء الاستقلاليين الذين رفضوا تسجيل أبنائهم في مدارس التعليم العمومي الوطني وفضلوا مدارس البعثة الأجنبية، وعلى رأسهم وزير التعليم الاستقلالي عز الدين العراقي الذي لديه وحده ثلاثة أبناء تخرجوا جميعهم من هذه المدارس، مع أنه كان من أشرس المطبقين لسياسة تعريب التعليم ومغربته. وحتى لا يزايد حزب الاستقلال وعباس الفاسي على وطنية المغاربة، ليسمح لنا سعادة الوزير الأول بأن نذكره بالفترة التي كان فيها وزيرا للشغل في حكومة إدريس جطو، ورأى بعينه كيف لجأت وزارة الخارجية، التي كان كاتبها في الدولة آنذاك هو الفاسي الفهري، إلى السلطات الفرنسية لكي تتدخل وتقنع الصحافي علي المرابط بقبول قضاء فترة سجنه في فرنسا بحكم توفر المرابط على الجنسية الفرنسية إلى جانب جنسيته المغربية. وفعلا، جاء لزيارة علي المرابط في غرفته بمستشفى ابن سينا، عندما كان مضربا عن الطعام، برلمانيان فرنسيان واحد يمثل الحزب الحاكم وآخر يمثل الحزب الاشتراكي، وطلبا منه أن يتقدم بطلب إلى السلطات الفرنسة من أجل نقل ملفه إلى باريس بحكم جنسيته الفرنسية، وشددا على ضرورة أن يتم ذلك قبل مناسبة 14 يوليوز حتى يتمتع بعفو رئاسي من الرئيس جاك شيراك. لكن علي المرابط رفض استعمال جوازه الفرنسي وتمسك بالبقاء في زنزانته الوطنية، إلى أن تم الإفراج عنه. فلماذا لم تجتمع اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال حينها لكي تدين لجوء الخارجية المغربية إلى الأجنبي لحل مشكل داخلي بين صحافي وقضاء بلاده. إن حزب الاستقلال، الذي ارتفع رقم المبادلات التجارية في عهده بين المغرب وإسرائيل ليصل إلى مليون دولار هذه السنة مقارنة بالسنة الماضية، حسب المركز الإسرائيلي للإحصاء، يستحق أن يحاكم محاكمة شعبية على سماحه لبعض الشركات المغربية بالتعامل مع العدو الإسرائيلي الذي يقطع معه المغرب العلاقات الدبلوماسية منذ 2000، تاريخ إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط. أليس التعامل التجاري مع الأجنبي الغاصب الذي يقتل الفلسطينيين ويسلب أراضيهم أخطر من التعامل مع سفارة فرنسا برسالة تطلب العون والمساعدة. فلماذا يا ترى لم تجتمع اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال لتدارس حقيقة هذه الأرقام التي أصدرها مركز الإحصاء الإسرائيلي وإعطاء موقف الحزب الرسمي منها، أو تكذيبها على الأقل. دعونا الآن من كل هذا الهراء، فالمغاربة يعرفون الوطني الحقيقي من الوطني الزائف. ما يجب القيام به الآن هو الاهتمام الصحي والعاجل بالمستشار نور الدين أبو بكر. لقد اهتم الجميع بالجدل الذي خلفته رسالة أفتاتي للسفير الفرنسي حول الحالة الصحية الخطيرة للمستشار أبو بكر، لكن لا أحد انتبه إلى أن المهم في كل هذه الحكاية هو إنقاذ أبو بكر من موت يتربص به في أية لحظة. على الجميع، حكومة وبرلمانا وأحزابا سياسية، أن يفهموا أن سلامة المواطن أبو بكر وحياته أهم بكثير من الجدل العقيم الذي دخلوا فيه بسبب حالته. إن ما وقع يكشف فعلا أن الذي يوجد في الغيبوبة ليس هو المستشار أبو بكر، وإنما ضمائر بعض السياسيين والرسميين الذين أصبح يستوي عندهم الحي مع الميت لبلوغ أهدافهم. الوطنية الحقيقية هي أن ينسى زعماء الأحزاب السياسية خلافاتهم للحظة، وأن يجتمعوا في حافلة واحدة ويذهبوا لزيارة زميلهم المستشار الراقد في غيبوبة لمعايدته ومواساة أهله. وإذا لم يربحوا من وراء هذه الزيارة رهان رأب الصدع بين الفرقاء السياسيين، فعلى الأقل سيربحون الأجر والثواب من عند الله لإحيائهم لسنة «عيادة المريض» النبوية. والله لا يضيع أجر المحسنين.