نحذر، منذ البداية، من أن المقصود هنا بالهمة هو الحركة السياسية التي أنشأها ورعاها، وكان ملهمها ومهندسها، والرمز الذي ارتبطت الحركة باسمه بشكل وثيق، أي أننا نريد الحديث عن نساء حزب الأصالة والمعاصرة، وليس عن الحياة الخاصة للهمة. وكما يستعين القائد في مشروعه السياسي برجال يمثلون ذراعه وسنده في وضع الخطط، وتنظيم الحملات الانتخابية والتواصلية، ورسم المناشط والبرامج ودبج البيانات والمواقف، ويفيد من سمعتهم ونفوذهم وذكائهم وخبرتهم، فإن للقائد أيضا نساء يمنحن مشروعه بهاء وجاذبية وإشعاعا، ويزوّدنه بما يحتاج إليه هذا المشروع من بريق وقوة للنفاذ إلى الأفئدة والقلوب، وينقلن إلى عامة الناس بشكل سلس وناعم مضمون «رسائل» القائد وأسس مشروعه. وبهذا المعنى، فإن نساء فؤاد عالي الهمة، ينقسمن إلى صنفين: - صنف أول من النساء، كانت لهن في السابق تجربة سياسية راكمنها خلال عملهن في صفوف حركات سياسية أخرى، ثم قررن بعد ذلك حط الرحال في مرفأ الأصالة والمعاصرة، ومن هؤلاء النساء، مثلا، ميلودة حازب وخديجة الرويسي. الأولى كانت عضوا بمجلس النواب عن الحزب الوطني الديمقراطي، وسطع نجمها في ولاية 2002-2007. ففي وقت كان البعض يعتقد فيه أن كل نائبة أو نائب دخل المجلس تحت لواء حزب إداري، لا يمكن أن ينتج إلا الرداءة السياسية، ظهر أن ميلودة تحمل مؤهلات تقنية في مضمار العمل البرلماني وتخوض معارك الدفاع عن مواقفها بألمعية واقتدار، ولهذا اعتبرت من لدن كثيرين أنشط امرأة في الولاية النيابية المذكورة، وانتُخبت في عدة هيئات دولية، وساهمت في تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة وتبوأت موقعاً قيادياً بارزاً فيه. وقد تمكنت، باسم الحزب، من الفوز بالإجماع برئاسة مقاطعة النخيل بمراكش، وهي في نفس الوقت فاعلة جمعوية وأم لثلاثة أبناء. أما خديجة الرويسي، فقد كانت في السابق مناضلة في صفوف النهج الديمقراطي، وعضوا بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وعضوا مؤسسا لمنتدى الحقيقة والإنصاف، وقد أخذت مبادرة تأسيس «بيت الحكمة»، وساهمت في ظهور حركة الهمة، ثم أصبحت ضمن الفريق الوطني المسير للحزب. - صنف ثان من النساء، تلألأن أساساً في سماء الانتخابات الجماعية الأخيرة، ومنهن، مثلا، فاطمة الزهراء المنصوري وفاطمة بوجناح وحسناء الجادري وكوثر بنحمو. ففاطمة الزهراء هي أول عمدة في ظل النظام الخاص بالمدن الكبرى، إذ كانت أسماء الشعبي رئيسة جماعة في ظل النظام الجماعي العادي. فاطمة الزهراء تبلغ من العمر 33 سنة فقط، متزوجة وابنة باشا سابق لمدينة مراكش وسفير سابق. وقد حصلت على الإجازة في الحقوق من جامعة القاضي عياض بمراكش، قبل أن تلتحق بفرنسا وأمريكا لاستكمال دراساتها العليا، وهي عضو مسير لإحدى الجمعيات المهتمة بالتراث، وتشتغل بقطاع المحاماة. إلا أن المحكمة الإدارية قضت، أخيرا، بإبطال نتائج العمليات الانتخابية التي جرت بمقاطعة المنارة وبإعادة الانتخابات فيها، وكانت فاطمة الزهراء وكيلة اللائحة الإضافية لحزب الأصالة والمعاصرة في هذه المقاطعة. وفاطمة بوجناح انتُخبت رئيسة لجماعة قروية بنواحي طاطا وهي لا تبلغ من العمر إلا 22 ربيعا، وبذلك تكون أصغر امرأة ترأس جماعتها. مستواها الدراسي هو الباكلوريا، وهي رئيسة جمعية شباب «تكنارت»، وهو الدوار الذي وُلدت به (جماعة تيزغت – قيادة إسافن)، وهي تنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع. وحسب الأرقام الرسمية المعلنة – والعهدة على محرري المحاضر- فقد حصلت بوجناح على 600 صوت، وهو ما لم يسبق أن حصل عليه مرشح سابق في الدائرة. لم يسبق لهذه الشابة أن مارست السياسة، وهي تقول إنها «اختارت» حزب الأصالة والمعاصرة لأنه يركز على الجهوية واللامركزية، وبحكم انعدام تجربتها السياسية، فقد أفصحت عن كل شيء عندما سُئلت عن علاقتها برجال السلطة المحلية، إذ صرحت بأن «هؤلاء شجعوني وأرشدوني ودلوني على الطريق، ورحبوا بي وأبدوا الاستعداد لدعمي ومساندتي وتوجيهي». هذا التصريح يدل على أن علاقتها برجال السلطة المحلية وصلت إلى الحد الذي جعل هؤلاء «يدلونها على الطريق!». وهذا لا يحتاج إلى تعليق. وحسناء الجادري هي ابنة ال26 عاما، تترأس اليوم المجلس القروي لجماعة تكاط الواقعة بمنطقة الشياظمة على مسافة 40 كلم شمال مدينة الصويرة. ويعتبر منسق حزب الأصالة والمعاصرة بالإقليم أن انتخاب حسناء رئيسة للمجلس هو «من الفتوحات المكتسبة لتكسير جدار هيمنة الرجال على مهام تسيير الشأن المحلي، خصوصا بالمجال القروي». إن هذا الكلام يقدم حزب الأصالة والمعاصرة في صورة قائد ثورة نسائية عظمى في المجتمع المغربي. أما كوثر بنحمو، فهي بكل تأكيد أشهر الوجوه النسائية للحزب في انتخابات 2009، وذلك عقب ظهور صورها وهي على متن جرار بصدر نصف عار. هذه الصور جعلتها حديث المجالس وموضوع التعليقات. إنها بكل تأكيد صور جريئة بالنسبة إلى حملة انتخابية مغربية، وقد تهاطلت على صاحبتها المكالمات والاتصالات من كبريات المنابر الإعلامية الوطنية والعالمية. وعلاوة على كون صور كوثر هي، بكل تأكيد، تحد للعقليات المحافظة، فهي حتى من الناحية الجنسية، يمكن أن تُقرأ على أنها انتفاضة على زمن كان فيه جسد المرأة حرثا للرجل، وإيذان بزمن تمتطي فيه المرأة الجرار لتحرث الأرض. فالعادة أن من يقود الجرار هو دائما رجل. كوثر بنحمو دكتورة في الصيدلة، ولم يسبق لها أن مارست السياسة، وتقول عن نفسها اليوم إنها دخلت المعترك للنهوض بجماعة بوقنادل. وفوزها يمكن أن يُقَدّم على أن قيم الحرية النسائية قادرة على الانتصار حتى في الوسط القروي وفي مشاتل التيارات السلفية. إننا هنا، على العموم، ورغم بعض الاختلافات، نوجد أمام عينة لنساء شابات، متعلمات، جريئات، ولا تخفن أثر اقتحام مناطق الضوء على أوضاعهن وعلاقاتهن العائلية، وأمام وجوه «صالحة للتصوير» والتسويق الإعلامي، تخدمهن الصورة ويخدمن الصورة، وأمام نساء عصريات، متحركات، مفعمات بروح الحيوية والإقدام، ثائرات على التقاليد، ناجحات في حياتهن الاجتماعية، طموحات، ونشطات، وتتطلعن بثقة إلى المستقبل. إننا هنا أمام معركة رمزية يمكن أن نقول إن حزب الأصالة والمعاصرة قد ربحها إلى حد ما. وإننا هنا، كذلك أمام نساء: - درسن بالخارج، أو تعاملن مع الخارج، أو استوردن منه فكرة أو تجربة أو مرجعا. فالخارج، أو «الآخر» تحديدا بالنسبة إليهن، ليس هو الشيطان. - يُرْجِعن نجاحهن الانتخابي أساساً إلى رأسمال رمزي، قوامه معرفة الحقائق على الأرض والارتباط بالناس، بمعنى أن السياسة «الحقيقية» هي معرفة مشاكل الناس البسطاء وأهلية تدبير الحلول في عين المكان، بعيدا عن الشعارات الجوفاء، والمعارك السياسوية التافهة، والعجز عن مد قنوات التواصل والحوار مع المواطنين، بمعنى أن زمن الإيديولوجيا والاختيارات الكبرى قد انتهى، وبمعنى آخر لنترك للمخزن أن يحسم في الملفات الكبرى (لأنه الأعرف بمصلحتنا)، وعلى الساسة الحقيقيين، الراشدين حقاً (نساء ورجالا) أن ينكبوا على ما هو «جدي»، وهو «الملفات الصغرى»، التي هي ملفات السياسة الحقيقية التي يجب أن تُترك للسياسيين. - دخلن السياسة لأول مرة، فكان لا بد من ظهور حزب الأصالة والمعاصرة حتى تُتاح لمثل هذه الطاقات النسائية، التي جمدتها المراحل السابقة، أن تنبعث وتتفجر وتنطلق. إن الفكرة التي أراد أن يسوقها حزب الأصالة والمعاصرة، عبر هذه «الفتوحات النسائية»، هي أن هناك بالمغرب جيلا بكامله، يمكن أن نسميه «جيل كوثر بنحمو»، يتشكل من نساء يتقاطعن معها في العديد من الصفات المشتركة. نساء هذا الجيل، أو هذه الفئة، يردن أن يعشن حريتهن بالكامل، بدون قيود أو حدود مصطنعة، يردن ارتداء الأزياء التي يخترنها كأي نساء في العالم، يعشقن الحرية والتحرر، يرفضن تسويغ اللامساواة بين الجنسين باسم الدين، يناهضن التزمت والأفكار الماضوية، يسلكن نهج العلم والعمل، يتمسّكن، مثلاً، بحق مشاهدة فيلم (حجاب الحب)، والاستمتاع بمهرجان موازين، والذهاب إلى الشاطئ، واكتساب أصدقاء من الجنسين، ورفض وصاية الذكور، ومشاهدة حفلات هيفاء وهبي، يعتبرن أن من حقهن إطلاق المبادرات وإبداع المشاريع ومنافسة الرجال في تقلد مختلف المسؤوليات. نساء هذا الجيل أو هذه الفئة كن في انتظار حزب جديد، فجاء حزب الأصالة والمعاصرة ليجدن فيه، أخيراً، مكانهن الطبيعي، فهو إذن – حسب خطابه الضمني – يمثل فئات عصرية شابة، وُلدت بعد الاستقلال، تسخر من مآل طبقة سياسية شاخت واستبد بها العياء والإجهاد، وانتهت تجاربها إلى الفشل، وابتعدت عن الشعب، وشح عطاؤها، ونضبت مواردها، واستسلمت إلى عادة الحروب الصغيرة والانتظارية، وافتقدت حس المبادرة والتجديد. هذه الطبقة السياسية فشلت في مواجهة الأصولية، وتركت هذه الأخيرة تبدو وكأنها قدر مقدر، والأصولية تمثل خطرا على الحرية والديمقراطية، بتبنيها لحرفية تفسير النصوص، وبتعاليها على الواقع ورفض تأطير النص بنظرة تاريخية، وبمحاولة الحد من مجال الحقوق الكونية وقيم التسامح والانفتاح على الاجتهاد الإنساني الخلاق. إن حزب الأصالة والمعاصرة، إذن، أُريد له أن يبدو وكأنه يتطابق مع طموحات فئات واسعة من النساء، ويتيح لهن وحده فرص اشتمام هواء جديد، وتحريرهن من التقاليد العتيقة، والدفع بهن إلى الأمام، وكأنه يريد أن يجعل منهن -بشكل كامل- مغربيات القرن الواحد والعشرين، مغربيات مدونة الأسرة والعهد الجديد، مغربيات الحداثة الاجتماعية والمعاصرة الحزبية. لكن، ما لم تظهره هذه الصورة المخملية الجميلة أن هناك وجها آخر للعملة، فهذا الحزب المعاصر جدا والحداثي جدا والمناهض الشرس للأصولية، يصبح بقدرة قادر قطعة من معمار التفكير الماضوي والأصولي القديم، عندما يتعلق الأمر بطبيعة الأعيان الذين جلبهم بالآلاف من المصانع الحزبية القديمة، وعندما يتعلق الأمر بمعالجته لقضايا الحداثة السياسية والمؤسسية. فهل يستطيع هذا الحزب، مثلا، أن يدافع عن تحديد جديد لوظيفة إمارة المؤمنين حتى تنحسر إلى الحدود المقبولة ديمقراطيا وتتخلص من حمولات التفويض الإلهي والسمو الشخصي وتفوق النسب وامتلاك البركة؟ وهل يستطيع الحزب الدفاع عن حق الحكومة في أن تحيل مشاريعها على البرلمان مباشرة مادامت تمثل الأغلبية التي اختارها الشعب؟ وهل يستطيع الحزب مناهضة قداسة الأشخاص، وتقرير حق نقد الخطاب والأداء الملكي بكل احترام ولياقة وبالحجة والبرهان؟ وهل يستطيع الحزب أن يرفض المنع الضمني لنوع من الكاريكاتور الذي يُسمح به في الدول الديمقراطية كوسيلة تعبير سياسي حتى ولو تعلق بشخص رئيس الدولة، أم إن حرية الإبداع فقط تعني حق كتابة الأفلام السينمائية بلغة (كازانيكرا)؟ وهل يستطيع الحزب أن يدافع عن حق الوزير الأول في أن يطبق برنامجه ولو كان نقيضا للبرنامج القار الذي أصبح «برنامج الدولة»؟ وهل يستطيع الحزب أن يدافع عن حق الحكومة في الاطلاع مسبقا على مضمون الخطاب الملكي حتى لا يتناقض مع برنامجها؟ هل يستطيع الحزب أن يقر بحق الحكومة المنتخبة في إدارة السياسة العامة للبلاد والحسم في ملف كملف الصحراء وغيره من الملفات الموكولة فعليا إلى المستشارين الملكيين؟ هل يستطيع الحزب أن ينتقد سابقة عدم اطلاع الحكومة على النظام الأساسي لرجال السلطة قبل نشره بالجريدة الرسمية؟ هل يستطيع الحزب أن ينتقد تأخر المجلس الوزاري لشهور وشهور؟ إن أجوبة حزب الأصالة والمعاصرة هنا بالضبط، يا دكتورة كوثر، ويا جيل كوثر، لن تكون لها ربما أية علاقة بقيم الحرية والحداثة، التي باسمها، سمحت الصيدلانية الشابة للمصور بأن يلتقط لها تلك الصور التي «جعلت منها إنسانة مشهورة»!