ظهر القناع كوجه آخر يلبسه الإنسان أمام الطبيعة أو المجتمع، منذ أن ظهرت الوسائط الإيصالية والتواصلية، لتمرير الأفكار والمواقف اللصيقة بالوجوه كملامح أصلية وعلامات مميزة بين تعدد المسالك والاتجاهات. وأحيانا لا اتجاهات ولا مبادئ إلا هذه السوق التي لها صرفها ومنطقها الذي ل امنطق له. طبعا لكي تفعل في السوق وتسوقه، عليك أن تكون سوقا..وهلم سوقا. في هذا الصدد، يمكن وضع الأقنعة كتقنيات ورؤى فنية في مجالها الحقيقي، إذ عرفت الفنون التشكيلية والمسرحية الأقنعة بأشكال وأنواع مختلفة لمحاكاة الحيوان أو الرموز، فتطور القناع كنوع وتقنية باعتباره أداة انتماء وبحثا عن الحقيقة في الحياة والوجود. الشعر نفسه عرف هذه التقنية من خلال استحضار رموز مرجعيات عدة، وشخوص أدبية وفكرية؛ وبالتالي فتقمص شخصية ما، يعني إعلان قيم ومبادئ ما، لتشكيل أفق إبداعي غني بالتقاطعات والامتدادات . هنا وجب التمييز بين القناع كتقنية بلاغية وفنية، وبين القناع كأستار وممارسات تهدف إلى إخفاء الأصل، للتكيف والمسايرة، ولو مسايرة الكارثة. لكن ونحن نتأمل في وجوه الجوار التي تتغامز وتتقافز أمامنا بين المؤسسات والتحولات الموسمية التي تقتضي تحول الوجوه إلى وجوه أخرى. هناك في هذا المغمار والمعمار، أقنعة أخرى أيضا، تسعى إلى تقديم الوجوه على ملامح ما، للمجتمع والمؤسسات والعلاقات، وجوه تضطلع بأدوار جديدة، لذا تراها أكثر ترتيبا وحلاقة، فتضيع طبعا الملامح الحقيقية؛ مقابل إبراز ملامح القناع وإيهام الآخر بأنها حقيقية وغير مزيفة. والعكس تماما، فالتخفي لعبة ملازمة لكل ممارسة ذات خلفية، يعني إخفاء الأصلي والحقيقي ؛ وبالتالي الرقص على الحبال والتوزع في الرياح، بهدف ما، في الغالب يخدم الدائرة، وليس الامتداد وتجلي الحياة. يبدو الآن أن الكثير من الأشياء التي تجري، تغذي ثقافة القناع، فأصبح الكل يرتدي لباسا آخر أو خوذات واقية من الحوادث والطوارئ الآتية من السؤال المطارد، الفاضح للازدواجيات والحربائيات للوجوه المفارقة لنفسها وللواقع. فهذه الكائنات التي لا تعاتب نفسها بقوة داخلية، من الصعب أن تعي الدرس مهما كانت حروفه وتوغلاته. إن ثقافة القناع وإخفاء الملامح الحقيقية للوجوه، جعلت الحياة تتوزع في الواقع، وليس في التأمل والتمثل، وعليه يمكن الحديث عن حياة الكواليس وحياة الظل وحياة الضوء وحياة لا يعلمها إلا الله مهما امتدت الأنوف للتشمم والفضح. أصبح الوجه المقنع، متنطعا وبكامل «الجبهة» التي تليق بالواجهة، ولكل مقام مقاله ولغته، بل حتى بعض المبدعين يرقصون على الحبال، ويمشون في كل الاتجاهات، ويعودون إلى ثقافتهم المنزوية سالمين، لممارسة أنشطتهم وتأبط حقائبهم. تتعدد الأقنعة، إلى حد أنك أصبحت تعبر بين الوجوه، دون تلمس الملامح الحقيقية للوضعيات والمواقف . وغالبا فالوجوه المقنعة التي أصبحت تغمرنا وتطاردنا لا مواقف ولا مبادئ لها؛ ماعدا هذا التعدد الذي يحمي وجودها المفتت ويجعلها في الوضوح الغامض منتعشة، ومنتفخة كرغبات مشوهة الداخل. وإذا كانت هيئات ووجوه سياسية تمارس لعبة القناع بشكل كثيف يحتمي بالتبرير وتجديد نبرة الخطاب، ولولا التبرير، لسقط القناع، وبدا البيت خربا. هنا وقريبا تجد وجوها ثقافية، تتخذ هذه الأخيرة مطية وقناعا، قصد عبور سلس، وبكامل المجد الثقافي. وبالتالي فكثيرة هي الرهانات الثقافية التي تبقى عالقة وتعيد نفسها كأسئلة حارقة من قبيل أزمة القراءة وشتات المشهد والوضع الاعتباري للمبدع والثقافة معا... الشيء الذي انعكس بالسلب على العمل الجماعي الذي لا يقوى على المسافات الطويلة، فيتحول إلى مساحات فردية لا تخلو بدورها من أقنعة. الكل يلبس الأقنعة الآن، بنسب مختلفة، وبعمليات جراحية متعددة الشكل والنوع، لإخفاء ما يسعون إلى إخفائه. لكن الماء الذي يجري من تحت، بإمكانه أن يعري، ويعيد الملامح لحذافيرها.. ويسقط القناع، في مسيرة التاريخ طبعا.