كتب إبراهيم الكوني العشرات من الروايات الجميلة وأدخل الصحراء من الباب الواسع إلى الأدب، أو قاد الأدب إلى الصحراء. وفي عالمه الروائي تشم رائحة الرمل وتحس لظى الشمس التي تلفح رمال الصحراء فتجعلها شواظا، وبينما جعل حنا مينة البحر عالمه، حوَّل الكوني الصحراء إلى طقس أدبي وبنى سرادق بلا أبواب تنظر مباشرة إلى السماء. قبل تسع سنوات، وهذا معلم في الكتاب، صادفت رواية لاسم جديد لم أتعرف عليه من قبل. كان اسم إبراهيم الكوني جديدا بالنسبة إلي، ولعل السبب يعود إلى أن المجلات الأدبية لم تكن ترحب به كثيرا. اقتنيت الرواية التي كانت بعنوان «الخسوف» من أجل الفضول فقط، لكن مفاجأتي كانت كبيرة جدا. ما إن أنهيت ذلك العمل حتى بدأت في البحث عن الأعمال الأخرى. لكن المفاجأة الأكبر لم تكن المستوى العالي للرواية، بل في أن صاحبها من القطر الليبي، وعادة لا يعرف القراء كاتبا له صيت عربي في ليبيا سوى أحمد إبراهيم الفقيه. وقد حل الكوني في الأسبوع الماضي ضيفا على برنامج «زيارة خاصة» بقناة «الجزيرة» القطرية، لكي يفسر هذه العلاقة السحرية التي تربطه بالصحراء وبأصوله الطوارقية. إنه يرى أن الصحراء نقيض الاستقرار وند الترحل، لأن الاستقرار عبودية والترحل حرية. وكشف الكوني أن الغرب هو الذي اكتشفه في البداية، بعدما ترجمت أعماله إلى جميع اللغات الحية في العالم وحصل على جوائز أدبية رفيعة، وقال إن العرب لا يقرؤون، وأكثر الذين لا يقرؤون منهم هم النقاد. ورغم غزارة إنتاجه وتراكمه الروائي الكبير، الذي لا يمكن أن يوازيه سوى تراكم نجيب محفوظ، ظل الكوني بعيدا عن الساحة الأدبية العربية في عزلة شبه مطلقة عن العالم العربي. وردا على ذلك أجاب في لقاء صحافي سابق معه مستشهدا بمثل فرنسي يقول إنه عندما يفلح المبدع في إنجاز عمل خارق أو عمل عبقري أو عمل ناجح فلا بد أن يفعل المجتمع المستحيل لكي لا يتكرر هذا العمل. لخص الكوني بهذا المثل الواقع العربي جملة. الواقع الذي يضيق بالمبدعين ويعادي الجدية في العطاء ويميل إلى العمل بأسلوب العصابات، حيث لا يمكن أن تكون كاتبا «كبيرا» إلا إذا كنت تنتمي إلى واحدة من المافيات الثقافية التي تملأ الصحف والمجلات وتتكسب بمدح بعضها البعض. وبينما ظل العرب يجهلون أو يتجاهلون الكوني، اعتبرته مجلة «لير» الأدبية الفرنسية واحدا من بين خمسين راوئيا عالميا يمثلون أدب القرن الحادي والعشرين ووضعته بين القمم الأدبية في العالم. تنفتح العوالم الراوئية للكوني على جميع الأبعاد الإنسانية، موظفا ثقافة هائلة في الأديان والحضارات والتقاليد العربية العريقة في شمال إفريقيا، ومستفيدا من عطاءات ست لغات يقرأ بها لشحذ أداة الكتابة لديه. فهو لا يكتب كطوارقي بل كأديب يتوجه إلى الإنسانية بشكل عام، ويمزج عالمه الروائي بتساؤلات فلسفية عن الوجود والمستقبل والدين والخرافة وما بعد الموت، ويخلط الحقيقة بالسحر والواقع بالخرافة ويجترح تجربة راوئية تفور بالشخصيات المتعددة والأحداث الملحمية التي لا تنتهي الواحدة منها إلا لتبدأ الأخرى وهي تشد بتلابيب الملحمة السابقة. إحدى نقاط القوة في الكتابة الروائية لدى الكوني هي تحقيق معادلة الشكل والمضمون. لا يوجد هناك اغتراب لغوي في النص، إن صح التعبير. إنه يكتب عن الصحراء بلغة أهل الصحراء، ويعطي للقبيلة لغتها ولا يعير لسانه لأحد من أبطاله، فلا يشعر القارئ بأي تناقض بين كونه يقرأ عن عالم تقليدي بأسلوب عصري، حيث تصبح اللغة لاصقة بالنص من خارجه، لا ترجمة حقيقية له. إنه يقتنص معجمه اللغوي من التراث العربي ويحافظ على صفاء اللغة ونقاء الكلمة في محيطها، ولا يسمح للتصنع في الأسلوب أن يتسلل إلى النص لكي يفسده.