يستغرب المرء بعض ردود الأفعال المندهشة والمصدومة من اكتساح حزب الهمة للانتخابات الجماعية الأخيرة، وهم بهذا ينسون أن بداية الرجل تحمل أسرار ما مضى وما سيأتي.. من «المعجزات الانتخابية»، فخروجه الملحمي من دائرة الحكم والمرفق «برسالة الرضى» كان أساسا من أجل الاكتساح ولم يكن من أجل المشاركة.. وسيكتسح فيما سيأتي من انتخابات إلى أن تتغير المعطيات التي أنتجت هذه البداية: «ابن الشعب يعود إلى الشعب.. يعود إلى أصله».. وبين الخطوط العريضة لهذه الرحلة «البروميتوسية» تنتعش شياطين التفاصيل.. الحزب لا ينتمي إلى الحركة الوطنية، لذلك أُغلقت أمامه المدن والحواضر، فنهج تكتيكا سياسيا ذكيا وبراغماتيا، أولا، عندما خاض حربا لتجميد الفصل الخامس من قانون الأحزاب، مع أن هذا القانون له صفة أخلاقية أكبر منها تشريعية.. واضطر فيها الرجل الأول الحقيقي في الحزب إلى استعمال عبارات لم يجرؤ على استعمالها أحد من قبل في مشهدنا السياسي ضد بنموسى والفاسي والعمال والولاة.. وهذه الحرب كانت تستهدف الاستفادة من معطى قائم، للأسف، وهو أن علاقة المرشحين «الأعيان» بأحزابهم هي علاقة صورية جدا وليست مبدئية إطلاقا، وبالتالي فعندما يرى المرشح حزبا بهذه الجرأة على مواجهة الداخلية بكل تراتبيتها، بدءا بوزير الداخلية الذي سماه الهمة ب«المريد»، وصولا إلى العمال الذين سماهم ب«أعداء الحزب» و«أعداء مغرب الغد»..، عندما يرى مرشح براغماتي هذه الجرأة المنعدمة في الأحزاب الأخرى، فإنه يعرف أنه محمي من «الدار الكبيرة».. ثانيا؛ الحزب استند إلى قراءة سوسيولوجية تبين أنها دقيقة، عندما عمم تغطيته للمناطق القروية بما فاق 95 %، وبلوائح فردية ضمت أعيان المناطق، الأغنياء بسنة فلاحية جيدة، والنافذين في بنية قبلية انقسامية (أنا وأخي ضد ابن عمي..) والأميين الذين يعتبرون تربية البقر أهم من تربية البشر. داخل هذه الخلفية، يصبح رمز «التراكتور» مناسبا جدا، نظرا إلى الأهمية التي لآلة الجرار في الحياة الفلاحية للقرويين، فالوردة والميزان والكتاب.. وغيرها من الرموز لا تمثل له إلا أشياء من السهل الاستغناء عنها.. وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات معطى استفحال الأمية في صفوف الناخبين القرويين، فإنها تؤدي بنا إلى استنتاج أساسي وهو أن الحزب لم يتم اختياره لبرنامجه الحزبي «الأصيل والمعاصر»، الذي بشر به الهمة وحواريوه.. إذ بالنسبة إلى القروي العادي، «المخزن ما كايلعبش»، وحزب الهمة حزب المخزن.. لذلك سارع إلى التصويت على المخزن.. في عملية تبدو، في ظاهرها، انتخابات ولكنها، في العمق ونظرا إلى كل الحيثيات السابقة، استفتاء، وهنا نسوق إحدى النوادر التي أقدم عليها أحد مرشحي الحزب في منطقة قروية في إقليمبني ملال.. حيث تعاقد في الأيام الأخيرة للحملة مع شركة للحراسة.. فاستقدم عشرة رجال أشداء بلباس أزرق موحد وبنظارات سوداء وضعوها على أعينهم.. فبدأ يجوب القرية مدعيا أن هؤلاء جاؤوا من الرباط، والويل لمن لم يصوت لحزبه، ولنا أن نتصور النتيجة.. أما عن مسؤولية الدولة فهي ثابتة لسببين، أولهما نظري، يهم مفهوم الدولة ذاته، فالدولة عجزت عن ضمان تطبيق القانون، ومبدئيا فالدولة تفقد مشروعيتها عندما يفقد القانون الذي شرعته طابعه الإلزامي والسيادي على الجميع، فحين يخضع تطبيق القانون لتوازن القوة والضعف، تصبح قيم العدالة والمساواة غير ذات معنى.. فكيف يعقل أن يستجوب رئيس حزب النهج لدعوته إلى مقاطعة الانتخابات، مع أنه ليس هناك قانون يمنع إبداء رأي كهذا.. فبغض النظر عن خلفية الرجل وما إذا كنا نتفق معه أو لا، فالذين مسوا القانون هم الذين كذبوا على الشعب عندما فازوا بصفات حزبية معينة وبدلوا انتماءاتهم دون أن يطلع الناخبون على هذا الأمر؛ فتساهل الدولة مع هذا الأمر هو تمييع للحياة السياسية وسوء فهم كبير للتوجيهات الملكية الواضحة والداعية، في أكثر من مناسبة، إلى تخليق الحياة السياسية، وترسيخ قيم الديمقراطية والشفافية.. ليطلع علينا الوزيران بنموسى والناصري.. ليتكلما عن مناخ الشفافية الذي ساد الانتخابات.. ولن نحتاج إلى قاموس سياسي لنبرهن على أن العملية غير شفافة من أساسها.. عندما نستنتج هذا، فإننا لا نعفي الأحزاب من هذا الأمر.. فكلنا سمعنا عشرات الاستقالات الجماعية التي أقدم على تقديمها مئات من مناضليها عشية تحضير لوائح الانتخابات، احتجاجا على فرض الأجهزة المركزية لأشخاص لا علاقة لهم بالنضال الحزبي من قريب ولا من بعيد..، بل إن بعضهم له ماض أسود على جميع المستويات.. مكرسة لوضعية سكيزوفرينية؛ فنجد الإقطاعي مترشحا عن حزب ليبرالي، والمقاول عن حزب يساري، واليساري «سابقا على الأقل» مترشحا عن حزب إداري.. ومع ذلك، يطلع علينا شيوخ الأحزاب ليعطونا دروسا في الشفافية والنزاهة.. ويتباكون على ما تعرضوا له من خروقات.. مع أن السؤال المكتوب على جبين كل هؤلاء جميعا هو: إذا كان الجميع مع الشفافية، فمن ضدها؟