بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، رفض أن يتنازل عن موقفه المتصلب المناهض لحل الدولتين، أثناء محادثاته التي استغرقت أربع ساعات في البيت الأبيض مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، نصفها اقتصر عليهما فقط دون الوفدين الرسميين، مما يعني أن عملية السلام التي يراهن عليها بعض العرب انتهت بالصورة التي نعرفها، وأن مرحلة جديدة في طريقها إلى التبلور، ربما نرى ملامحها في الخطاب الذي سيلقيه الرئيس أوباما أثناء زيارته للقاهرة مطلع الشهر المقبل. المنطق يحتم على الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يتبنى سياسات، ويبدأ تحركات، توحد الصف الفلسطيني أو تجمد الخلافات القائمة حاليا، كخطوة أولى على هذا الصعيد، وتطمئن الشارع الفلسطيني المسكون بالقلق على مصيره، ولكن ما حدث هو عكس ذلك تماماً، والإعلان عن حكومة فلسطينية مهلهلة، فاقدة الهوية، مثلما شاهدنا بالأمس، هو المثال الأبرز على ذلك. ولا نعرف ما هي الحكمة من وراء تشكيل حكومة لا تعمق الخلافات مع حركة «حماس» وتنسف الحوار معها فقط، وإنما تمزق «الصف الفتحاوي»، وتوتر العلاقات مع مصر، دون أن تحقق أي مكاسب، اللهم إذا جاءت هذه الحكومة تلبية لإملاءات أمريكية واستجابة لرغبات إسرائيلية. فأي شرعية لحكومة فلسطينية ترفضها حركة «حماس» وتدينها كتلة «فتح» في المجلس التشريعي، وتقاطعها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويتبرأ منها حزب الشعب (الشيوعي سابقاً) احتجاجاً؟ أنْ تقاطع حركة «حماس» هذه الحكومة، فهذا أمر مفهوم، لأنها قاطعت الحكومة السابقة برئاسة السيد سلام فياض وشككت في شرعيتها، ولكن أن ترفضها حركة «فتح» حزب السلطة، ومن قبل كتلة منتخبة من الشارع الفتحاوي والمستقلين المؤيدين له، فهذا يعني أن هذه الحكومة ليست وحدها فاقدة الشرعية، وإنما السلطة كلها في رام الله فاقدة الشرعية، ولم تعد تمثل حركة «فتح»، ناهيك عن الشعب الفلسطيني برمته. فإذا كان الرئيس عباس لا يتشاور مع كتلة حركته المنتخبة في انتخابات حرة نزيهة حول تشكيل الحكومة، وبرنامجها السياسي، وخططها التفاوضية المقبلة، واستراتيجيتها الإقليمية، فمع من يتشاور إذن؟ هل يتشاور مع نفسه، ويقرر كل شيء حسب مزاجه الشخصي، أم مع «الثالوث المقدس» المحيط به ولا يفارق مكتبه لحظة، أم مع أمناء فصائل يتمثلون في الحكومة الجديدة دون أن يكون لهم أو لفصائلهم أي تمثيل في المجلس التشريعي أو ثقل على الأرض؟ المنطقة العربية مقبلة على تطورات ربما تكون الأخطر في تاريخها، فالإدارة الأمريكية تستعد لإطلاق مبادرة سلام جديدة، تلغي المبادرة العربية عمليا، من خلال إسقاط كل النقاط التي تحفظت عليها الحكومة الإسرائيلية مثل حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مضافا إلى ذلك بند بتوطينهم في الدول التي يقيمون فيها، وآخر يكرس إسرائيل كدولة يهودية. صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية أكدت ما نشرناه في هذه الصحيفة قبل أيام عن تحركات أمريكية، تجد تجاوبا من بعض الدول العربية، للتسريع في عمليات التطبيع مع إسرائيل مقابل تجميدها للاستيطان في الضفة الغربية. المعارضون لحكومة عباس الجديدة من نواب حركة «فتح» يريدون تصليب الموقف الفلسطيني في مواجهة هذه المخططات التي ربما تؤدي، في حال نجاحها، إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتحميل حركة «فتح» مسؤولية أي تفريط في الثوابت الأساسية، على اعتبار أن السلطة تمثلها وتنطق باسمها، ومعهم كل الحق في ذلك. الرئيس عباس قدم هدية قيّمة إلى «حركة» بإعلانه عن تشكيل هذه الحكومة، لأنه حكم على نتيجة حوار القاهرة قبل أن ينتهي، ووجه صفعة إلى حلفائه المصريين الذين يرعون هذا الحوار، وأغلقوا المعبر، وحاصروا مليونا ونصف مليون فلسطيني للحيلولة دون تكريس الانقسام وتلبية لتوصياته. صحيح أن السيد فياض رئيس الحكومة، قال إنه سيقدم استقالتها فور توصل حوار القاهرة إلى اتفاق بالمصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن أما كان الأجدى الانتظار شهراً واحداً ريثما يتبين الخيط الأبيض من الأسود في هذا الحوار، فلماذا العجلة في تشكيل هذه الحكومة، وماذا كان سيحدث لو تأخرت شهرا، أو شهرين، أو حتى ستة أشهر ريثما تجري انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة؟ فهل ستتأثر صادرات البترول الفلسطينية أم ستتعطل عملية توقيع اتفاق إقامة الدولة المستقلة؟ جميع المؤسسات السياسية الفلسطينية منتهية الصلاحية، وفاقدة الشرعية بالتالي: المجلس الوطني، المجلس المركزي، اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الرئاسة الفلسطينية، اللجنة المركزية لحركة «فتح» وحتى حكومة فياض الأولى التي لم تقر أو تعتمد من المجلس التشريعي الفلسطيني الوحيد الذي يتمتع بالشرعية. ومن الطبيعي، وبناء على كل ما تقدم، أن تولد الحكومة الفلسطينية المشكلة بالأمس من رحم غير شرعي، وعلى يد قابلة غير مؤهلة، ووسط شهود زور، حتى لو صفق لها باراك أوباما، وتبنتها هيلاري كلينتون وزيرة خارجيته. قرار تشكيل هذه الحكومة ليس الوحيد الذي يعكس حال التخبط التي يعيشها الرئيس عباس هذه الأيام، فقد تحدى اللجنة التحضيرية المكلفة بالإعداد للمؤتمر العام لحركة «فتح»، وأصدر قرارات مخالفة لقراراتها، مثل الإصرار على عقد المؤتمر داخل الأراضي المحتلة، وتحت الحراب الإسرائيلية. فكيف يتم عقد مؤتمر لحركة وطنية، تطالب غالبية أعضائها بالعودة إلى الكفاح المسلح، سيرتها الأولى، تحت أعين أجهزة الموساد الإسرائيلي؟ ومن يضمن خروج الأعضاء بعد تصويبهم لخطها ورفض البرنامج السياسي التفاوضي العبثي للحركة الذي لم يسفر إلا عن خيبات الأمل؟ الوضع الفلسطيني في قمة السوء، ولا جدال في ذلك، ولكن نحن أمام «حراك فلسطيني» على درجة كبيرة من الأهمية يتمثل في هذه «الانتفاضة الفتحاوية» التي رأيناها من خلال إجماع نواب حركة «فتح» في المجلس التشريعي على رفض حكومة فياض الجديدة. هذا الحراك يمكن أن يكون أرضية لتصويب مسيرة الحركة، وإعادتها إلى منابعها الأولى، وإزالة كل الشوائب التي علقت بها في الفترة الأخيرة، من خلال تبني عملية تغيير واسعة وجذرية تعيد الثقة إلى الشعب الفلسطيني، وتضع حدا لحال الانهيار الحالية.