في إقامتنا كلمة تردد من الصباح إلى المساء، حتى أصبحت جزءا من حياتنا اليومية، تلازمنا في عشرتنا وتصاحبنا عند لقاء أصدقائنا، هي كلمة ليست كباقي الكلمات، مخارج حروفها غير حلقية ولا جوفية، تنأى عن لمسات دفء قلب المتحدث، مخارجها رنة في الخيشوم وارتكاز لسان فوق الثنيتين وضم الشفتين بحركتين وخاتمتها صفير منبعث من تحت اللثة، هي كلمة تنضح بمعاني الإنذار والصفير والرنين. هذه الكلمة هي اسم على مسمى، لكن هذا المسمى ليس من جنس المعاني أو جنس الماديات، بل هو من جنس ما تسري في باطنه روح الحياة، ليس بإنسان ولا حيوان إنما هو حشرة. . نعم حشرة! إنه الناموس وما أدرااك ما الناموس.. قد يكون المواطن المغربي والعربي في هذه الأيام يقيم قسريا - من دون أداء سومة الكراء- في بيته اللغوي حيوان قبيح المنظر، طنين حروفه تمجه مسام طبلة الأذن، حروفه الأولى تبعث على التقزز والنفور «الخنز...ير»، و«الخنز» معناه في غالب التداول الشعبي، الرائحة الكريهة المعقدة ومتكاثفة الأجزاء كأنها سحابة تكاد تمطر القاذروات، ولهذا يستعمل هذا اللفظ في كثير من السياقات كوصف معنوي، وخصوصا عند انطلاق شرارة خصام شرس بين رجل وامرأة «سير الخانز... سيري الخانزة»، وهذا السباب له أثر في سحب صفة الشرف والعفة والطهارة من الشخص المسبوب، فهذا الخنزير باسمه المقزز وطالعه السيء شغل القاصي والداني حتى ليكاد يكون المنافس الأقوى للألفاظ الأكثر تداولا خلال هذه السنة «كغزة»، وأصبح الناس يتتبعون أخباره على مدار الساعة: خنزير يطلق نار أنفلونزاه على حي سكني بالمكسيك، مصر تبيد قطيع خنزير، مواطن مغربي بالجديدة يعدم «حلوفين»، حالة مشتبه بها في سبتة. عندما سمعت هذا الخبر الأخير، تقدمت إلى شرفة إقامتنا وطفقت أطلق بصري في علياء مدينة مرتيل، أوهم نفسي أني أنظر إلى مدينة سبتةالمحتلة، لعلي أرى الحالة المشتبه فيها، إلا أن بصري ارتد حسيرا وهو كئيب من حالة نفسية سببها غارات الناموس الليلية في هذا الفصل الربيعي، والتي سلبتني وأصدقائي وضيوفي وجيراني النوم والراحة، ولا أحد كلف نفسه عناء الحديث عنا، والكشف عن حقيقة الناموس وبنيته وما يخلفه من آثار صحية، كل ما هنالك أننا «خلينا دارنا ومشينا المكسيك»، وكأن العالم لا يعرف سوى اجتياح أنفلونزا الخنزير! البارحة عشت ليلة سوداء كسواد لون الناموس والمشكلة هو أنه «حشمنا مع واحد الضيف» لم تذق عينه النوم حتى الخامسة صباحا... أطفأت الأنوار، اتجهت إلى «ناموسيتي» سيئة الذكر، تمددت ونشرت اللحاف على كل جزء من جسدي. إنني الآن في خندق الدفاع. عن نفسي يرتطم بجدران اللحاف، بصري شاخص في ظلام دامس، أتحرك بهدوء لكي لا تظهر أطرافي أو رأسي.. تصلني من بعيد تحركات جيش عرمرم قادم من المستنقع المحاذي للبحر الأبيض المتوسط يتقدمه قائد باسل مع أركسترا محترفة تعزف سمفونية «زننننن...زننننن»، ويتوزع الجيش إلى فيلق مصاص دماء، وفيلق يجمع الدم، وفيلق حماية وحرب.. أمطت جزءا من اللحاف عن بصري، وشاهدت ما لم يكن في الحسبان جيش مجهز بأحدث التقنيات، إضاءة قوية ورادارات وهواتف محمولة وحواسيب وعلمت فيما بعد أن لهم مجموعة على الفايسبوك تنشر إنتاجاتها الدموية -وصهاريج لتعبئة الدم كالتي يحمل فيها الغاز. انكمشت في مكاني وبدأت دقات قلبي في الخفقان المتسارع، تصل أذني «زنزنات» بذلت مجهودا لتفكيك شفرتها. أمطت اللحاف مرة أخرى ورأيت كبير قومهم يشير بأصبعه، فعلمت أنه يدرس معهم خطة الليلة. . سيكون الاجتياح لكل غرف الإقامة.. أزداد اختناقا وأريد أن تداعب أنفي نسمات أوكسجين نقي. .. يا إلهي طائرات الناموس تحلق من على راسي «زننننن...زننننن»... أعضائي مسمرة في مكانها، واكتفيت فقط «بلمعيور» من تحت اللحاف، «إلكنت راجل الناموس فالنهار أجي لعندي، عندما يسمعون سبابي ينفجرون ضحكا علي... كانت ليلة دامية غير مستعد لها، كنت أطلق ساقي للريح، أقوم من مكاني هاربا تجاه الماء، أغسل أطرافي ويدي ووجهي المطرز بقبل ناموسة مجنونة حارة، تاركة آثار أحمر شفاهها، ومن شدة حبها لي مصت دمي، إنها قبلة لا كالقبل..