ثلاثون سنة من العمل المتواصل الدؤوب في المستشفى العسكري بالرباط، أو ما كان يدعى ب«ماريفويي»... حمام بيتها مليء بالقطن والكحول الأبيض والأزرق والأحمر، والضمادات البيضاء والخضراء التي توضع على الحروق، واللصقات، ومسكنات الألم، وكل معدات الإسعافات الأولية، وأدوية مختلفة الأسماء لكل الأمراض. ولم تخل خزانات حمامها حتى من مقص الجراحة وعبوات وقارورات من المختبر، تجلبها لتلعب بها طفلاتها كأدوات مطبخ للدمى. كل جيرانها كانوا يقصدون بيتها ليلا ونهارا لطلب دواء أو نصيحة طبية، فهي بحكم التجربة كانت أبرع في التشخيص ووصف الأدوية من أطباء اليوم، أو لتعطيهم حقنة دواء أو إبرة الأنسولين اليومية. كما أنها كانت جد خدومة، لا ترفض طلبا لأحد، فلم يبق أحد من جيرانها أو أساتذة بناتها، أو أخوات صديقاتها، أو صديقات أخواتها، أو حتى أفراد عائلة صاحب محل البقالة إلا ووقعت له شهادة طبية، أو أخذته إلى المستشفى، وحجزت له موعدا آنيا مع أبرع مختص من الأساتذة الكبار الذين كانوا يترأسون أقسام المستشفى، وأدخلته عند أحد معارفها للقيام بصورة إشعاعية، وأشرفت على تحاليله في المختبر بنفسها، ثم أخذته إلى صيدلية المستشفى «لتهدي» له الدواء المكتوب في الروشيتة أو الوصفة الطبية، ليخرج من المستشفى راضيا مرضيا ومعافى مسبقا من مرضه. أربعون سنة من الخدمة العسكرية، بين الجهاد في الصحراء المغربية لسنوات، والاشتغال في مطبخ المستشفى، ثم العمل كمحاسب في أحد أقسام المدرسة العسكرية، ومن ثم تدريس النظام العسكري لأطباء وأطر المستقبل... لم يخلو مكتب زوجها من الأقلام والأوراق البيضاء والملفات وحاملات الأوراق وكل لوازم المكتبات. كل من حوله لبس ملابس داخلية عسكرية، أو تدفأ ب«كاشة» عسكرية، أو تغطى بغطاء أخضر أو أزرق مطبوع عليه علامة «فاغ». ولم يبق أحد من الموظفين بمدارس أطفاله إلا وأغدق عليه مما جادت به المصالح العسكرية دون تردد. وكم مضى من تقارير ومرر من هفوات لأصحابه، وقضى حوائج الخلق وقضيت له. ...لم يكن هذا أمرهما وحدهما، بل كان أمر كل ممرضات المستشفى، والعاملين معهما، من الجنرال إلى آخر جندي مكلف بتنظيف ممرات المستشفى، الكل يفيد ويستفيد، أيام «دي شوية وخللي شوية»... كل المرضى مسعفون، وكل الموظفين يخدمون ويخدمون، وكل الأطباء مرتاحون، لا أحد يبقى دون مقابلة طبية أو دواء. وفي مقابل كل ذلك، كانت ممرضات السبعينات نساء جد نشيطات ومجدات، تجدهن الثامنة صباحا كل يوم في مناصبهن ولا تمنعهن أناقة السبعينات الأسطورية، وضحكاتهن المعبقة بتمدن ما بعد الاستعمار، وجوهن الفرنسي وأسلوبهن الأوروبي في العمل، من التفاني والإخلاص. فلم يكن الترسب الفرنسي الفكري فقط السبب في أدائهن العمل بإتقان، لكن الوجود الفعلي لرؤساء فرنسيين تشبثوا بمناصبهم ولم تعدهم موجة الاستقلال إلى بلدهم، وظلوا يقومون اعوجاجات كانت متوقعة.. كن يعملن للحظة، ويعشن في اللحظة، دون التفكير المسبق في آفات المستقبل التي أسقطت الكثير منهن من مركبة الأمان التي شملتهن بعد الاستقلال. تلك المركبة التي كان يقودها ربان الوطنية والمقاومة، بأسماء كعلال بن عبد الله كانت ولا زالت تضج في الآذان كأنها أقدار أشعلت مع انطفائها أضواء الحرية والكرامة، وتدفعها أشرعة الأمل التي تدفقت مع المسيرة الخضراء، وحقوق استمددنها من حركات نسائية إنسانية أكثر منها ليبرالية. جيل تفاءل بالحاضر أكثر منه بالمستقبل.