يعتقد بعض المغاربة أن عبد الإله بنكيران كان لئيما واستعمل عبارات بذيئة عندما ردَّ على برلمانية من حزب «البام» وقال لها «دْيالي كبير عليك»، مع أنه لا عيب أبدا في أن يقول رجل لامرأة إن «دْيالو كبير عليها»، خصوصا وأن بنكيران كان في أوج وقمة نقاش حام مع تلك البرلمانية التي قالت له إن حزبها كبير عليه، فرد عليها الرجل الملتحي الوقور بما تعرفونه. القضية، إذن، لا بذاءة فيها ولا لؤمَ، كل ما هناك أن بنكيران مغربي مثلنا، والمغاربة عادة ما يميلون نحو العبارات الغامضة حينما يجدون أن عباراتهم الواضحة لم تؤت أكلها، وهذا ما حدث بالضبط في تلك المناقشة الرومانسية بين رئيس الحكومة وامرأة «البام». ما جرى، إذن، له علاقة بالأسلوب العام الذي صار الناس يستخدمونه في شتى مجالات النقاش، وهاهم يتحدثون هذه الأيام عن أغنية اسمها «عْطيني صاكي بغيت نْماكي» لمغنية تدعى الداودية، إلى درجة أن محامين قرروا مقاضاتها بتهمة التحريض على الدعارة، وهناك من قاضاها بتهمة سرقة كلمات الأغنية، ويا لها من سرقة، لأنها أول مرة سيجد فيها قاضٍ نفسه أمام شخصين، أحدهما يتهم الآخر بسرقة بول البعير. ما لا يدركه الكثيرون هو أن هناك ترديا حقيقيا في «لغة» المغاربة وأساليب تواصلهم مع بعضهم البعض، ليس اليوم فقط، بل منذ زمن بعيد، وهو تردٍّ لم ينشأ من فراغ، فعندما بدأ تمييع السياسة والنقابات والأحزاب والجامعات والجمعيات، صار من الطبيعي أن تصل الميوعة إلى كل شيء.. إلى لغة السياسة والأغاني والأدب والصحافة والرياضة وكل شيء، لأن الميوعة مثل الهواء، نتنفسها دون أن نراها. في زمن مضى، كانت الأغاني المغربية، مثلا، أقحوانات حقيقية من الإبداع الجميل والكلمات الراقية، وقد استمتعنا كثيرا بروائع محمد الحياني وعبد الهادي بلخياط وبهيجة إدريس وفتح الله المغاري وعبد الوهاب الدكالي ومحمد فويتح وجيل جيلالة وناس الغيوان والمشاهب وآخرين كثيرين. وحتى الأغاني التي تسمى «شعبية» كانت رائعة وراقية في ألحانها وكلماتها. حميد الزاهر، مثلا، ليس هو حجيب، فالأول غنى مقطوعات جميلة ومعبرة عن «لالة فاطمة» و»آشْدّاك تمشي للزين» وغيرها، والثاني فجر فضيحة مدوية عندما حوّل الغناء إلى شقة للدعارة و»السّتريبْتيز». ربما لا يلاحظ الناس أن البذاءة سارت جنبا إلى جنب مع تفشي البذاءة والميوعة في المجال السياسي. ويكفي أن نعاين موجة ظهور الأغاني المريضة لنجد أنها ظهرت في الوقت نفسه الذي مرضت فيه السياسة وتم تحويل المجتمع إلى مجرد قطيع، لذلك استقبل مغاربة كثيرون أغاني نجاة عْتابو بكثير من الترحاب، ليس لأنها جميلة، بل لأن الذوق العام كان قد تعرض للمسخ، فكان لا بد أن تظهر الأغاني الممسوخة لكي تساير التحول العام وهبوط القيم وسقوط سقف الإبداع على رؤوسنا. المجتمعات لا تسقط بالتقسيط، ولا يسقط منها جزء ويبقى جزء آخر في مكانه، بل يكون السقوط شاملا، وهذا ما حدث للمجتمع المغربي الذي يعاني، اليوم، من أرذل لحظات عمره، حيث البذاءة في كل مكان، ليس في القول فقط، بل في الفعل أيضا. أن نسمع، اليوم، أغاني مثل «عْطيني صاكي باش نْماكي»، فهذا ليس سوى قطرة من بحر السقوط العام، لأنه، عقودا قبل هذا، غنى الكثير من السياسيين وقادة الأحزاب أغاني مشابهة دشنت تطليقهم للمبادئ وخروجهم المباشر نحو الدعارة السياسية، فقبضوا الثمن مقدما ومؤخرا وباعوا «الماتْش» تلو «الماتشْ». وقبل أن تحرض الداودية على التحرش الجنسي في الشارع العام، فإن الدولة فعلت ذلك قبل عقود حين أطلقت أيدي المفسدين من أجل العبث بأقوات الشعب ومنحت «لاكارْط بْلانش» للناهبين واللصوص وشجعتهم على التحرش بالمغاربة وسلبهم أرزاقهم ونهب الميزانيات وزرع الضغينة والبغضاء بين الناس وجعلهم يتحرشون ببعضهم البعض ويتقاتلون لأتفه الأسباب. البذاءة بدأت يوم مات أو انزوى الرجال الشجعان في هذه البلاد وتركوا أمكنتهم لأشباه الرجال الذين وضعوا المبادئ على باب «سوق الدّلالة». الذين يلومون بنكيران، اليوم، ويتهمونه بالبذاءة لأنه قال عبارة «ديالي كبير عليك»، يمارسون نفاقا مخيفا لأنهم يعرفون أن بنكيران جيء به لأنه يتمتع بمزايا كثيرة جدا، أولاها قدرته على خلق فرجة استثنائية، حيث لا يلتوي لسانه أبدا لا في الحق ولا في الباطل؛ لذلك، وعوض أن تشغلوا المغاربة بتوافه الأمور، أعيدوا إلى هذا الشعب ما أفقدتموه إياه طوال العقود الماضية.. أعيدوا إليه قيَمه وفنه وثقافته وتقاليده وكرامته وأرزاقه المنهوبة، فالبذاءة الحقيقية هي سرقة هذا الشعب.