وعورة المسالك وصعوبة التنقل والتهميش والعزلة التي ترزح تحت وطأتها المناطق الجبلية، والتي تزداد شدتها مع قدوم فصل الشتاء، كلها ظروف ساهمت في استمرار وجود »«القابلة التقليدية» التي لم تندثر رغم برامج وزارة الصحة في المجال. أياد خشنة تخلص نساء الجبال من آلام «وجع» الولادة، ولا تتردد في الاستجابة على وجه السرعة لكل راغب في خدماتها. يهرعن مسرعات بالليل والنهار للقيام بدورهن دون كلل ولا ملل، يشاركن المقبلة على الولادة آلامها إلى حين الوصول إلى مرحلة «الخلاص». «انتباه سقوط الأحجار»، «خطر»، «حاجز الثلج»، «منعرجات خطيرة على طول 5 كيلومترات».. كلمات وجمل مدونة على علامات سير تنتصب في الطريق المؤدية إلى إقليمأزيلال، والتي تشير إلى خطورة الطريق والمسالك الوعرة التي تعرفها تضاريس المنطقة. ثمن النقل بضواحي أزيلال يعرف ارتفاعا، خصوصا في نهاية الأسبوع، إذ تعرف حركة التنقلات ركودا، وهو ما يفرض على الراغب في التنقل أداء ثمن الرحلة كاملة إذا أراد التنقل عبر سيارة الأجرة الكبيرة، وإلا سينتظر ما يزيد عن ثلاث ساعات ليسافر على متن سيارة النقل المزدوج. انطلاقا من مركز آيت عباس، حيث توجد الجماعة القروية، التي تبعد عن أزيلال بحوالي 60 كيلومترا، انتقلنا إلى بعض الدور الموجودة في الضواحي عبر قنطرة «سقاط» مشيا على الأقدام، من أجل لقاء نساء امتهن «التوليد». منازل متباعدة هنا وهناك، والوصول إليها متعب وشاق. بساطة في اللباس والمأكل والمشرب من مظاهر عيش الناس هناك، الذين ما زالوا يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم الصامدة صمود الجبال التي يسكنونها. قساوة المناخ تعمق مشاكلهم المتعددة والمتنوعة، التي تطال مجال التعليم والصحة على وجه الخصوص. نساء يكابدن شظف العيش، أياديهن خشنة من كثرة العمل داخل البيت وخارجه، فالمرأة في الجبال تقوم بجميع الأشغال، من طهي وكنس وإعداد الأكل وتربية المواشي وجلب الحطب، وغيرها من الأشغال الشاقة، في حين أن الرجل موكول له العمل خارج المنزل. تعد عائشة، امرأة في الستينات من عمرها، كومة من الحطب من أجل حملها على ظهرها لتصل إلى بيتها البعيد، يداها مشققتان وتجاعيد تكسو وجهها الذي يحمل وشما أمازيغيا. تحكي عن تجربتها مع الولادة قائلة: «وضعت جميع أبنائي في المنزل وكانت حماتي هي من قامت بتوليدي والحمد لله. كما أن هناك نساء يتطوعن لذلك، وهذا هو حالنا». روح النكتة والدعابة تطبع حديث فاضمة، التي خاطبتني طيلة اللقاء ب»تاعرابت». تحكي هذه المرأة كيف خاضت تجربة التوليد دون مشاكل تذكر، لأن البعد عن المستشفى يجعل الحاجة ضرورية إلى «القابلة التقليدية» في المنطقة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها. تقاطعها فاطمة آيت الطالب، لتنقل بدورها تجربتها التي تصفها بالمتميزة، لأنها لم تقع لها أي مشاكل طيلة مدة ممارسة عملها، والتي تزيد عن عشرين سنة، باستثناء حالة امرأة حامل أغمي عليها. تقول فاطمة: «ذات يوم كنت أشرف على توليد إحدى النساء فأغمي عليها، فسارعت إلى وضع البصل على أنفها، فاستيقظت بعد برهة من الزمن، لتعم الفرحة المنزل، وترتفع الزغاريد في المنزل فرحا بنجاتها بعدما وضعت مولودها». بدورها تفتخر شطو، المتحدرة من آيت عباس، بأنها رغم تحدرها من الجبل وصعوبة العيش به، فإنها سهرت على تعليم أبنائها الذين حصلوا على مراكز مهمة اليوم بالعاصمة الرباط. خاضت شطو تجربة توليد النساء منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة، فاستطاعت أن تكسب حب الناس وتقديرهم، لكنها إذا ما صادفت حالة مستعصية تنصحها بالتوجه إلى المستشفى تجنبا لكل مخاطرة بروحها. تقول شطو: «نادرا ما تنتقل المرأة هنا بالجبال إلى المستشفى من أجل الولادة. كما أن وعورة المسالك تجعل الأمر صعبا، خصوصا مع سقوط الثلج. لذلك فإن النساء يضعن مواليدهن داخل منازلهن». «أسكيف» وطرق بدائية عادات وتقاليد توارثناها جيلا بعد جيل، من الجدات إلى الأمهات، فكلما شعرت المرأة بالمخاض بإقليمأزيلال، تتم المناداة على «القابلة التقليدية» الأقرب إلى مقر السكنى، لتسرع الخطى لتخليص الأم من «الجنين» الذي حان وقت وضعه، لتنطلق عملية التوليد. «أفحص الحامل وأتأكد من أن رأس الجنين «مقبل»، أي تحت، فآمر بذبح ديك وطهيه عبر استعمال البصل وزيت الزيتون لتشرب الحامل مرقه. وإذا لم يكن الأمر متاحا، يتم استبدال ذلك ب»أسكيف»، الحساء بالأمازيغية أو بيض دون لمح، وكل ذلك من أجل تيسير عملية المخاض»، تقول فاطمة. «قابلات الجبال»، اللواتي التقتهن «المساء»، لم يتلقين تكوينا من قبل وزارة الصحة، لأنهن لم يفكرن في ذلك ولا أحد اقترح عليهن الأمر، فقد اكتسبن التجربة عبر الممارسة وحضور عمليات التوليد منذ أن كن طفلات، مثل حادة التي دأبت على مرافقة عمتها منذ أن كانت طفلة وساعدتها في توليد عدد من النساء إلى أن أصبحت تقوم بذلك لوحدها. هذه المرأة التي لم تهتم بإحصاء عدد النساء اللواتي أشرفت على توليدهن، تخفي وراء ملامحها الأمازيغية وبشاشة وجهها شخصية امرأة حساسة وقوية في الوقت ذاته. تقول حادة: «لدي تجربة تجاوزت 16 سنة في المجال، ودافعي هو إنقاذ حياة المرأة والجنين في مناطق صعبة يعاني سكانها التهميش والعزلة والفقر، وأريد الأجر لا غير». ما زالت القابلات بالمناطق الجبلية يعملن بالطرق التقليدية البدائية، لأنهن ورثن ذلك، رغم أن وزارة الصحة والمجتمع المدني يقومان بحملات تحسيسية من لحث النساء على الولادة داخل المراكز الصحية. كما خصصت الوزارة دورا للأمومة من أجل تقريب الخدمات الصحية من المرأة الحامل. يقول الفاعل الجمعوي حميد كيلاني، الذي يعتبر أن الإقبال على خدمات «القابلات التقليديات» المتطوعات يرتفع خلال فصل الشتاء بعدما تتساقط الثلوج وتنقطع المسالك والطرقات. كما أن عددا من النساء القرويات يفضلن الولادة داخل منازلهن حتى لو كن يجاورن دور الولادة. استحمام الوليد «مّي عيشة» هكذا تحب أن تنادى بجماعة تاكلفت بإقليمأزيلال. استطاعت هذه السيدة أن تستقبل بيديها حوالي 6000 مولود، بعدما قامت بتوليد أمهاتهن بالطريقة التقليدية، منهن معلمات وموظفات وزوجات مسؤولين قدر لهن العيش بالجبال. تصف «مّي عيشة» الطريقة التي يتم بها التوليد قائلة: «حين تكون المرأة في مرحلة «الوجع» آمرها ببذل جهد أكبر عبر دفع الجنين (الزحيم) ليغادر الرحم، وبعدما يخرج أقوم بقطع حبله السري بشفرة حلاقة جديدة، وإن لم تتوفر أقوم بتعقيم شفرة مستعملة، فأربط الحبل السري بخيط من الصوف، فأنتظر خروج المشيمة، التي تسمى بالدارجة «الخوت»، وهي المرحلة الحاسمة لأنه بعد ذلك يتم إيقاف النزيف». جرت العادة أن تقوم المولدة بالإشراف على استحمام الوليد مباشرة بعد الولادة، وتكحيل عينيه ووضع الحناء على سرته، غير أنه منذ سبع سنوات، لم تعد «مي عيشة» تقوم بمثل هذه العادات بعد لقاء جمعها ببعض الأطباء بدائرة واويزغت بإقليمأزيلال. وفي هذا الصدد تقول: «كنا نقوم باستحمام «التيلاد». غير أن الدكاترة نصحونا بعدم فعل ذلك إلا بعد مرور ثلاثة أيام. كما حذروننا من استعمال الحناء والكحل، مع الاقتصار على الماء والصابون عند كل تنظيف». هذه المرأة تشعر بالفخر والاعتزاز لأنها خدمت عددا من النساء في الجبال والمسالك الوعرة، وساهمت في إنقاذ حياتهن وحياة مواليدهن، فكانت تلبي طلب أي امرأة تطرق بابها في كل لحظة وحين، وكان زوجها «المخزني» يساندها فيما تقوم به. ولأنها لم ترزق بأولاد فقد تبنت أطفالا أصبحوا الآن رجالا ونساء، ولها أحفاد. كما أنها تعتبر كل المواليد الذين ولدوا على يديها أبناءها. الجرأة التي تميزت بها «مي عيشة» لم تستطع أن تغرسها في نفوس قريباتها، حيث قالت: «إن عددا من النساء، ومن بينهن ابنتي وزوجة ابني، ليست لديهن القدرة على فعل ذلك لأنهن يخشين الدخول في هذه المغامرة، والحمد لله طيلة 20 سنة لم يقع لي أي مشكل، غير أنني إذا وجدت أن مرأة تعاني من مشاكل أطلب منها أن تتوجه إلى المستشفى ولا أخاطر بحياتها». للرجال نصيب مهنة التوليد بالجبال لم تكن حكرا على النساء، بل هناك من الرجال من اقتحم المجال بسبب الحاجة الخاصة، ومنهم الحاج عمر، وهو متقاعد بالقوات المساعدة، تجاوز الثمانين سنة، سهر على توليد عدد من النساء بمدينة أزيلال وضواحيها. يحكي هذا الرجل عن الدوافع التي كانت وراء خوضه غمار التوليد قائلا: «في نهاية الستينيات ألحقت بوزارة الصحة كممرض مخزني، وتلقيت تكوينا في مهنة التمريض، فابتدأت عملي بتنانت، وكانت زوجتي وقتها حاملا بابنتي البكر، ولما اقترب موعد ولادتها اصطحبتها إلى مستشفى بني ملال وأشرف على توليدها طبيب جزائري، وبعدما انتهى طلب مني مالا مقابل ذلك فرفضت لأنني لم يكن لدي ما أمنحه له، ثم إن التطبيب كان مجانا. وبعد ذلك قررت أن أتعلم التوليد كي أقوم بتوليد زوجتي في المرات المقبلة حتى لا أقع في موقف مشابه، فتلقيت تكوينا ببني ملال، وبعد ذلك أصبحت أساعد قسم التوليد بالمستشفى المحلي بأزيلال. لم يقتصر عمل الحاج عمر على توليد النساء بالمستشفى، بل لما ذاع صيته كممرض له تجربة رائدة في الدواوير المجاورة، أصبح عدد من السكان يلجؤون إلى خدماته، فكان يتنقل عبر الدواب من بغال وحمير من أجل تخليص النساء من آلام المخاض والسهر على توليدهن، فكانت تحضر إلى جانبه «قابلات تقليديات» يتعلمن منه، كما يقول. وعندما كان الحاج عمر يصادف صعوبة في توليد إحدى النساء، يتصل بالطبيب ليستعين بإرشاداته. ولم يسبق له أن صادف أي مشكلة في عمله الذي استمر عقودا من الزمن. يحكي الحاج عمر شريط أنه كان رفقة «الفقيه»، تقني بوزارة الصحة، الرجلين الوحيدين اللذين تلقيا تكوينا إضافيا في مجال التوليد، ومارسا عملهما بأزيلال وضواحيها. يقول مفتخرا: «كان الإخلاص هو عنوان مسار حياتي، وحصلت على العديد من الشواهد التقديرية من عدد من الأطباء، والحمد لله أنني لم يسبق لي أن تلقيت مقابلا ماديا على ذلك، باستثناء بعض الهدايا الرمزية التي كان يلح علي السكان في أخذها من باب أنها تدخل في إطار العادات والتقاليد (البْيَاض) مثل اللوز أو الزيت. لم يتذكر الحاج عدد الأجنة التي أخرجها من بطون أمهاتها، باستثناء أبنائه العشرة الذين كان له فضل إخراجهم من ظلمات الأرحام إلى نور الدنيا. يقول: «يصعب أن أحصي عدد المواليد الذين أشرفت على توليد أمهاتهم، ولكن أعرف بعضهم، منهم أطباء ومحامون ومهندسون وصحافيون وغيرهم. إنه عدد كبير». عندما أنهينا حديثنا مع الحاج عمر، أشار بيديه إلى عدد من الشباب، الذين «ازدادوا على يديه»، قبل أن يلتقي بجاره حماد، الذي نوه بخصاله قائلا: «إن الحاج عمر يتوفر على تجربة متميزة، وهو من قام بتوليد زوجتي». وأضاف» «هو له الفضل الكثير على سكان أزيلال وضواحيها. إنه يستحق التكريم ووسام العمل التطوعي». الحاج عمر، و»القابلات التقليديات» اللواتي التقتهن «المساء» لا يهدفن من عملهن تحصيل المال، بل ابتغاء «الأجر»، من أجل إنقاذ أرواح نساء في عدد من القرى النائية التي يحكي سكانها قصص حوامل قضين نحبهن أو فقدن مواليدهن وهن في طريقهن إلى أقرب مركز صحي، محمولات على «نعوش» ما زالت تستعمل في المناطق الجبلية كوسيلة لنقل المرضى. 148 امرأة قروية تموت أثناء الوضع من أصل 100 ألف ولادة يبلغ معدل وفيات الأمهات عند الولادة بالوسط القروي 148 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية. بالمقابل يبلغ هذا المعدل بالوسط الحضري 73 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، وفق نتائج دراسة تحليلية أنجزتها وزارة الصحة سنة 2010. هذه الأرقام تبين أن عدد النساء القرويات، اللواتي يمتن خلال الولادة، يضاعف عدد النساء في المدن، علما أن حوالي 70 في المائة من المتوفيات في المناطق القروية يقضين نحبهن وهن في الطريق إلى المستشفى، وفق ما أكده مسؤولون بوزارة الصحة في تصريحات صحافية. وبلغ معدل وفيات المواليد الجدد خلال سنة 2013 حوالي 21.7 حالة لكل 1000 ولادة حية، أي ما يمثل 71 في المائة من المعدل الإجمالي لوفيات الأطفال دون السن الخامسة. ووفق الدراسة التحليلية حول الوفاة أثناء الولادة، فإن 220 ألف ولادة حية تتم داخل المنازل من أصل 600 ألف ولادة حية سنويا، أي أن أزيد من ثلث النساء الأمهات يلدن خارج المستشفيات العمومية. كما أن 75 في المائة من المتوفيات يتجاوزن 25 سنة، ولهن أكثر من طفلين قبل الوفاة، فيما 60 في المائة من المتوفيات لم يقمن بمتابعة حالتهن الصحية قبل الوضع، وتمثل الأمهات المتوفيات المتحدرات من العالم القروي نسبة 70 في المائة.