سيشكل عام 2014 المنصرم كابوسا بالنسبة إلى الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وربما في مناطق أخرى من العالم، وخاصة أوكرانيا، لأن إنجازاتها العسكرية والسياسية تواضعت وحلت مكانها هزائم لا يمكن نكرانها، أجبرتها على التراجع وتقديم العديد من التنازلات؛ والاستثناء الوحيد في هذا الصدد ينحصر في القضية الفلسطينية، ليس بسبب عوامل القوة الأمريكية وإنما الضعف الفلسطيني، والقيادي منه خاصة، وهذا لا يعني مطلقا أن العام الجديد سيكون أفضل حالا. العلامة الفارقة في العام المنصرم صعود «الدولة الإسلامية» وانهيار الجيش العراقي أمامها، وسيطرتها على أراض توازي مساحة فرنسا، تضم نهرين، وآبار نفط وغاز، ومخزونا ضخما من الحبوب، وفوق هذا وذاك أكثر من ثمانية ملايين مواطن، واعتمادا ذاتيا في المال والسلاح، وجيشا جرارا تعداده مائة ألف جندي، وفي تزايد. القصف الجوي الأمريكي المدعوم من ستين دولة، وبدأ قبل خمسة أشهر، لم يعط حتى الآن «ثماره» المرجوة، المتمثلة في إضعاف «الدولة الإسلامية» تمهيدا للقضاء عليها، لأن قوات هذه الدولة بدأت «تتأقلم» مع هذا القصف، والأخطر من ذلك نجاحها في إسقاط إحدى الطائرات المغيرة، أردنية الهوية، أمريكية الصنع، وجرى أسر طيارها الذي قدم معلومات «قيمة» إلى آسريه عن الأماكن التي تنطلق منها الطائرات، والدول المشاركة فيها، وكيفية عملها، وموقع غرفة قيادة العمليات، والله أعلم بالباقي. الإدارة الأمريكية -التي غيرت أولوياتها في سورية، وباتت تتعاون مكرهة مع إيران، وتنسق معها ضد هذا «الإرهاب»- فشلت في إقناع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالانضمام الفعال إلى التحالف الستيني، وإرسال قوات برية إلى سورية لخوض حرب ضد «الدولة الإسلامية» طالما رفضت هذه الإدارة التجاوب مع شروطه (إردوغان) في العمل على إسقاط النظام السوري بالتوازي مع محاربة «الدولة الإسلامية»، وإقامة مناطق عازلة وحظر جوي، فتركيا تصّعب شروطها لأنها تعرف أنها صعبة القبول، مثل الذي يُغلي مهر ابنته، لأنها لا تريد الهزيمة لهذه «الدولة»، وتعتبرها ورقة ضغط استراتيجية في يدها في مواجهة منافسيها في سورية والعراق. الرجل المريض هذه الأيام هو الأمة العربية وبلدانها، والكل يسّن السكاكين لاقتطاع نصيبه منها في ظل عملية التفتيت التي تسير على قدم وساق لسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان، الأمر الذي يذكرنا بالمراحل الأخيرة لانهيار الدولة العثمانية تحت ضربات القوى الاستعمارية الغربية، مثل هذه الأيام قبل مائة عام بالتمام والكمال. الخوف الأمريكي، المعلن على الأقل، من «الدولة الإسلامية» وباقي الفصائل الأخرى المتشددة، نابع من كونها قوة جذب للشباب العربي والمسلم، وهشاشة «الدول القطرية" في المقابل، مثلما هي قوة قابلة للتمدد، ولولا القصف الأمريكي الجوي لاستولت على أربيل، عاصمة الدولة الكردية المنتظرة، ودخلت إلى بغداد، وسيطرت على أراض واسعة في جنوب الحدود السعودية مع العراق، (عرعر ورفحة وتبوك وربما المدينةالمنورة أيضا). في ظل فشل الجهود والضغوط الأمريكية لجر تركيا إلى التورط عسكريا، وبشكل مباشر، في الحرب البرية التي تشكل المرحلة الثانية في استراتيجية مكافحة «الدولة الإسلامية» هذه، وجدت الإدارة الأمريكية وقيادتها العسكرية نفسها مضطرة إلى العودة إلى العراق مجددا، واستغلال نقاط ضعفه أمام هذا «الزحف الإسلامي السني» المتشدد، لوضعه في مواجهة هذا «التسونامي» بريا من خلال إعادة «تأهيل» قواته العسكرية وأجهزته الأمنية، للقيام بهذه المهمة، واختارت رئيس وزراء مستعدا للتعاون معها في هذا المخطط دون أي تردد. تطبيقا لهذا المخطط، بدأ أكثر من خمسة آلاف جندي أمريكي يوجدون على أرض العراق حاليا، ويتمتعون بالحصانة الكاملة، في عملية تدريب خمسة آلاف جندي عراقي كل ستة أسابيع لإكسابهم «المهارات الدنيا» لاستعادة المناطق التي سيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعدد هذه القوات الأمريكية سيتزايد ويتضاعف حتما في العام الجديد. ماذا يعني هذا المخطط وما هي فرصه في النجاح؟ من المؤكد أن الإدارة الأمريكية، وبعد أن اكتشفت حجم الفساد في المؤسسة العسكرية العراقية التي دربتها وسلحتها (جرى الإعلان عن جنود «هوائيين» أو بالأحرى «وهميين» يقبضون رواتبهم وهم في منازلهم)، وحصلت على 25 مليار دولار في المقابل، قررت حل الجيش العراقي للمرة الثانية بطريقة غير مباشرة، واستبداله بقوات جديدة تتولى مهمة محاربة «الدولة الإسلامية»، واستعادة مدينة «الموصل»، وإقليم الانبهار ومناطق أخرى سيطرت عليها الدولة، وشكلت سيطرتها إهانة لحكومة بغداد المركزية والاحتلال الأمريكي الذي رعاها وثبتها. فرص هذا المخطط الأمريكي الجديد في النجاح تبدو محدودة، لسبب بسيط هو أن أمريكا تقع في الخطإ نفسه الذي وقعت فيه في العراق ومناطق أخرى، أي الاعتماد على الحلول العسكرية للأزمة بمعزل عن الحلول السياسية وسياسات الإقصاء والتقسيم العرقي والطائفي التي مارستها طوال عشر سنوات من احتلالها للعراق. أمريكا تنظر إلى المنطقة العربية نظرة اجتزائية تتعامل من خلالها مع كل دولة أو منطقة على حدة، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج توفر الحاضنة الشعبية ل»الدولة الإسلامية» في العراق وسورية وغيرهما، والجماعات الإسلامية الأخرى المتشددة. القيادة العسكرية الأمريكية التي قسمت العراق طائفيا تريد الآن تقسيمه عسكريا على الأرضية الطائفية نفسها، فهي تدرب جيشا شيعيا رسميا، وتعمل في الوقت نفسه على تدريب وتأسيس جيش سني مواز تحت اسم الحرس الوطني، أو جيش العشائر العراقية أو بالأحرى «صحوات» بأسماء جديدة، ومن غير المستبعد أن يصطدم الجيشان، سواء قبل أو بعد إنجاز مهمتهما المتمثلة في القضاء على «الدولة» هذا إذا أنجزاها فعلا. إنها صيغة فريدة من نوعها لم تحدث وتكرر في أي منطقة أخرى من العالم غير المنطقة العربية، وبهدف خدمة مصالح الهيمنة الأمريكية والغربية، وليس من أجل مصالح السكان الذين سيكونون حتما وقودا لحرب مقبلة ضحاياها بعشرات أو مئات الآلاف، تماما مثلما حدث بعد الاحتلال العراقي في مارس عام 2003. هذا الاستعجال الأمريكي في أعمال التدريب للجيش العراقي «الجديد» يؤكد أمرا واحدا، وهو أن معركة الموصل باتت وشيكة، بل وشيكة جدا، وعلينا أن نتوقع خسائر بشرية ضخمة، ودمارا كاملا للمدينة أيا كان المنتصر فيها، إذا كان هناك أي منتصر. المعركة في عين العرب «كوباني»، التي لا يزيد عدد سكانها على 30 ألفا، وتدافع عنها قوات البشمرغة المدربة والمسلحة أمريكيا، وقوات الجيش السوري الحر المسلحة والمدربة أمريكيا أيضا، ووحدات الدفاع الكردي المدربة والمسلحة أمريكيا أيضا وأيضا، هذه المعركة توشك على دخول شهرها الرابع رغم القصف الجوي الأمريكي المتواصل، ترى كم ستستغرق معركة «الموصل» من أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنين، التي تشكل غابة إسمنت ويقطنها ثلاثة ملايين إنسان؟ نكتفي بطرح السؤال ونترك الإجابة للأيام والأسابيع والسنوات المقبلة تماما مثلما فعلنا مع بدء الغزو الأمريكي للعراق قبل 11 عاما ونيف. عبد الباري عطوان