أحمد المرزوقي من الإير إلى الهيلورت، ذهبت جريدة «ليبيراسيون» تقتفي أثر أولائك الشبان الذين توغلوا في التطرف بدون علم ذويهم، فرحلوا إلى سوريا ليحاربوا في صفوف الدولة الإسلامية إلى أن أصبحوا مع مرور الوقت جلادين وقتلة. هذه الحركة الشاذة التي تجتاح بعض دول أوروبا، لا تقتصر على الأحياء الهامشية ولا على أطفال الهجرة، ولكنها تمتد كذلك إلى من اعتنقوا الإسلام حديثا، كهذا الشاب النورماندي، ماكسيم هوشار، وزميله رفاييل عمار، الذي لقي مصرعه أخيرا أثناء خوضه معركة في سوريا. لقد اعترفت أسرتيهما ومعها جميع الأخصائيين في هذا الميدان باندهاشهم الشديد وحيرتهم الكبيرة. وسواء كانوا من قبل من معتنقي الديانة اليهودية أو النصرانية أو الإسلام، فعائلاتهم تؤكد جميعها أنها لم تستشعر في تصرفاتهم أي بوادر من شأنها أن تدق لهم ناقوس الخطر. كل ما هنالك، هو أنهم اعتنقوا إسلاما راديكاليا، ثم ما لبثوا أن انزلقوا بعده إلى أشد أنواع التطرف. إن سوسيولوجيا المجنِدين الغربيين في صفوف الدولة الإسلامية تظهر شبانا من الطبقة المتوسطة يعيشون في غالب الأحيان على هامش المجتمع. وهكذا لم يتردد رؤساء داعش، الذين لهم باع طويل في الدعاية، في تقديم هؤلاء القتلة الغربيين بوجوه مكشوفة، وكأنهم يريدون بذلك أن يثبتوا لأعدائهم قدرتهم المتناهية في استدراج شبابهم للجهاد. وقد أدلى كثير من المهتمين بدلوهم في هذه الظاهرة الغريبة، محاولين إيجاد تفسير مقنع لمسار هذا الشباب الضائع. فمن قائل بأن هذه المعضلة هي وليدة انعدام الأخلاق والقيم، ومن مؤكد أنها نتيجة حتمية لثقافة القوة والعنف على غرار ما وقع في سنوات الرصاص، ومن مدع بأنها نزوع مرضي نحو الدمار الشامل. لكن في حقيقة الأمر، لا يوجد حتى الآن أي طريق سالك يهدي إلى معرفة الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة الخطيرة. والدرس المستخلص من كل هذا، هو أن كل مسارات هؤلاء الشبان، على تنوعها وتشعبها، تنفي مسؤولية الانزلاقات عن أي جالية أو ديانة أو ثقافة، مما يستوجب على مختلف المجتمعات، الحث على إيجاد حلول أكثر نجاعة وجدية بدل اللجوء إلى اللازمات المستهلكة من قبيل حصر مكمن الداء في مشكلة الجنسية والمواقع الإلكترونية وانحطاط التربية، ثم تتبع كل ذلك بالحراسة البوليسية اللصيقة. دهشة كبيرة حول ماكسيم.. هذا الشاب الذي كان ودودا مهذبا ويلي دوفان مبعوث خاص إلى قرية بوسك روجي أون روموا في قرية بوسك روجي أون روموا في مقاطعة الأور، لم يكن أحد يتوقع أبدا انحراف هذا الشاب الذي تعرف عليه الناس في شريط فيديو، يظهر حصة همجية لقطع الرؤوس من طرف الدولة الإسلامية. طوال يومين كاملين والمنزل ذو النوافذ المغلقة، القابع في قاع ممر مفروش بالحصى، يخضع لتصوير مكثف من كل الجهات. منزل من ذلك النوع الذي يتمناه من يطمح في مجرد حديقة صغيرة وغرفتين للأطفال. هو بيت في ملكية العائلة هوشار، التي ظهر ابنها البكر ماكسيم ذي الثانية والعشرين ربيعا في شريط فيديو دعائي بثته الدولة الإسلامية على المواقع الاجتماعية، يبدو فيه الشاب هادئا باردا برودة إنسان آلي، وهو يهم أثناء حصة مرعبة لقطع الرؤوس بفصل رأس طيار سوري ساقه حظه العاثر إلى السقوط بين مخالب داعش. وتحت الدهشة العارمة والرعب الكبير الذي خلفه هذا الفيديو، سارع والدا ماكسيم وأعمامه إلى مغادرة قرية بوسك روجي روموا ( 3200 نسمة) مخفورين من طرف رجال الدرك ومختبئين تحت إزارات بيضاء. وعقب ذلك، انطلقت الألسنة من عقالها فطرحت من الأسئلة أكثر مما وجدت من الأجوبة حول هذه المغادرة المدوية نحو الجهاد لشاب لم يكن أي شيء يرشحه للارتماء في هذا المصير الدموي. فالقرية التي تربى فيها ماكسيم قرية هادئة تشبه آلاف القرى التي تعج بها فرنسا، ولا أحد استطاع أن يصدق ما رأته عيناه من بشاعة صدرت عن هذا الرجل، الذي يشهد له كل من هب ودب بالطيبوبة والهدوء. فهذه مارغريت، عجوز في عقدها الثامن، يعرف ابنها عم ماكسيم، تدقق النظر في صورة الشاب فتحس بمغص عنيف يلوي أحشاءها، فتهز رأسها متسائلة بحسرة واستغراب: كيف لهذا الشاب الطيب الودود أن يترك قريته الآمنة ويسافر إلى بلد مشتعل تتعالى فيه حمم العنف والدمار إلى عنان السماء؟ ثم لا تلبث أن تمر على سحنتها المتجعدة موجة من الحنان فتقول بتأثر عميق: كم هو جميل رغم لحيته الشعثاء التي لم تستطع أن تطمس قسمات وجهه الدقيقة وعيونه الجميلة المكمشة... فعلا، لا شيء في مسار حياة ماكسيم كان ينذر باشتعال تلك الجذوة الحامية في أعماقه التي طوحت به إلى الجهاد. إذ لا أحد في تلك القرية الآمنة عرف أي مشكل عن أسرته البسيطة، حيث الوالد يشتغل عاملا للصيانة، والوالدة تشتغل عاملة في صندوق التأمين الصحي. أما هو، فقد عرف مسارا دراسيا بدون أدنى تعثر، إذ درس أولا في إعدادية بوركترولد قبل أن ينتقل إلى ثانوية إلبوف. وفي ذلك يقول، بغير قليل من الغضب، أحد جيرانه وهو يرى جوقة من المصورين تشهر آلات التصوير في البيت المهجور وتمطره بقبسات من الضوء الخاطف: »لا شك أن المستقطبين في الدولة الإسلامية يمتلكون قوة إقناع قاهرة، فقرية بوسك روجي ليست نيويورك، ولكن فيها على كل حال ما يشغل ويلهي أي إنسان. فهنالك مجموعة من النوادي الرياضية وهنالك خطوط مواصلات تؤدي إلى مدينة روان، وهنالك متاجر متعددة، ولن أجانب الصواب إذا ما قلت بأن هذه القرية تزداد برجوازية عاما بعد عام وأنها أصبحت تتوفر على أحياء سكنية فاخرة، والناس هناك يذهبون للاشتغال في مصانع رونو ثم يعودون إلى مساكنهم آمنين، أي ما معناه أن الحياة ثمة أفضل بكثير من بعض القرى الأخرى». لقد اعتنق ماكسيم الإسلام في سن السابعة عشرة، وكان يهتم وقتئذ بالدراجات النارية فكان يقضي الساعات الطوال من وقته في ذرع الممر المؤدي إلى منزل والديه صعودا وهبوطا. واشتغل خلال ستة أشهر في مطعم دليس بيتزا للأكل السريع في جماعة بورك أشارد المجاورة، ثم بعدها، يقول كريستيان أحد جيرانه شاهدا: »أصبح أكثر ابتعادا عن الناس، وصرنا لا نراه إلا عابسا إلى حدود التجهم، وتزامن ذلك مع تغير واضح في طريقة ملبسه، إذ رأيته للمرة الأولى يلبس جلبابا، فلم أتعرف عليه في الوهلة الأولى معتقدا أن أسرة مسلمة جاءت للعيش في قريتنا». وحسب المعلومات المتوفرة، فإن أقرب مسجد من القرية يوجد على بعد ثمانية كيلومترات في قرية إلبوف المجاورة. وأفادت الإدارة العامة للأمن الداخلي بأن بعض عناصرها توجهوا إلى هذه القرية واستنطقوا أربعة أشخاص يشتبه أنهم ينتمون إلى شبكة جهادية. وبعد التحقيق معهم، أطلق سراح ثلاثة منهم، بينما وضع الرابع تحت الحراسة النظرية لقوة الشكوك التي تحوم حوله. فهل كانت لهذه العناصر يد في مساعدة ماكسيم على الالتحاق برقة، المدينة التي اختارها أبو بكر البغدادي مقرا لخلافته؟ المؤكد، هو أن المرور الوحيد الذي عرف لماكسيم في دولة إسلامية يرجع إلى فترة ممتدة بين أكتوبر 2012 و مايو 2013 بمدرسة قرآنية توجد في قرية موريتانية. غير أن مستشارا بلديا في بوسك روجي فضل عدم ذكر اسمه يقول حول ذلك: «هل من اللازم أن نبحث دائما عن مكمن الداء في العوامل السوسيولوجية والاجتماعية؟ يقال بأن عدد الملتحقين بسوريا لا يتعدى ألف شخص. ما قيمة ألف شخص وسط 65 مليون فرنسي؟ فعندما نكون في سن السابعة عشرة، نبدأ تلقائيا في البحث عن ذاتنا وإعطاء معنى لحياتنا. ففي سنوات السبعينيات مثلا، كانت هنالك موجة فلووير بووير، وفي الثمانينيات ظهرت موضة اعتناق البودية، الخ... ربما هذا الشاب وأمثاله يعيشون اضطرابا نفسيا قويا فاهتدوا إلى الجهاد وارتموا في أحضانه آملين أن يجدوا فيه ما يثبت وجودهم. المذهل حقا، هو أن الدولة الإسلامية قلبت كل الموازين بعدما أفلحت في استقطاب المسيحيين والمسلمين على السواء، وحتى بعض البرجوازيين الصغار... أنا شخصيا أفكر في الآباء والأمهات، فإذا ما قدر لماكسيم مثلا أن يموت شهيدا كما يتمنى هو ذلك، فما ذنب والديه اللذين سيعيشان بغصة في القلب وبصور بشعة لن تفارق ذاكرتهما إلى الأبد؟». المرور إلى الفعل وبعد رجوعه إلى فرنسا، أقام رفاييل مدة في باريس بهدف زيارة بعض أفراد عائلته. فكان يتفادى المشاجرة أثناء الخوض في المواضيع السياسية ويرى بخصوص سوريا أنه من غير المعقول ألا يتدخل أي أحد لوقف المجازر التي يرتكبها بشار الأسد في حق شعبه. ولما عاد إلى مدينته لونيل، قام بزيارة أصدقائه التبليغيين، (وهم أعضاء منظمة راديكالية أنشأت في الهند سنة 1920). وفي 16 يوليوز 2014، رجع رفاييل إلى باريس بهدف استكمال دراسته. تقول والدته: »كان يشتغل بمثابرة كبيرة ويجد في البحث عن مؤسسة يقضي فيها سنة دراسته الخامسة، وهذا ما جعلنا نطمئن عليه كثيرا سيما وأنه لم يعد يتطرق إلى المواضيع الدينية إلا لماما». لكن أياما بعد ذلك، التحق فجأة بصديقه صبري ببرشلونة، ثم غادراها سويا متوجهان إلى إستانبول. وفي يوم 21 يوليوز، اتصل بوالدته عبر هاتفه النقال وأخبرها بأنه هاجر للالتحاق بإخوانه في سوريا. ومن يومها ووالداه المصدومان يتساءلان عن السبب الذي دفعه للمرور بتلك السرعة المفرطة من القول إلى الفعل. وهي نفس الأسئلة التي يطرحها الطاهر أكرمي على نفسه دون أن يجد لها جوابا: »ما لا أفهمه، هو كيف لهؤلاء الذين لم يمارسوا الدين سوى ستة أشهر، يأتونك ليفقهونك في الدين بكل جسارة؟». ويضيف أكرمي قائلا: »فيما يخص حسام وأحمد وصبري، فإن عودتهم إلى الإسلام كانت بدافع طموح يحذوهم لنيل احترام الناس وإن كانوا بدون شغل ولا مأوى...». وبعد أن غاب الثلاثة عنه ردحا من الزمن، علم فيما بعد أنهم توجهوا إلى سوريا. وهنا يتساءل مستغربا: إذا ما استثنينا مقاما قصيرا بين الفينة والأخرى في بلد أجدادهم، فإن هؤلاء الفتيان لم يسافروا إلى أبعد من ضواحي المدينة، والسؤال الذي يفرض نفسه بكل إلحاح، هو كيف هاجر هؤلاء إلى سوريا بهذه السرعة؟ ومن هداهم السبيل إلى ذلك؟ فورة الحماس في سنة 2011، بدأ حسام وأحمد وصبري يواظبون يوميا على ارتياد مسجد لونيل الموجود بحي تجاري والمدشن سنة 2010. وكانت خطبة الجمعة تستقطب مئات المؤمنين من لونيل ومن نيم ومونبوليي كذلك. وكان كلما سئل المصلون عن رأيهم حول الهجرة إلى سوريا طأطأوا رؤوسهم وتملصوا من الإجابة، ما عدا شاب واحد اسمه آدم قبل التحدث في الموضوع ولكن بشرط أن يكون في بيته بعيدا عن أنظار الفضوليين: عندما تعتنق الإسلام، فإنك تمر من فترة تكون غاية في التأثر والحماس، وقد كان رافييل وأحمد ينتميان إلى مجموعة أنشئت من طرف إخوان التبليغ تسمى مجموعة الكلام، فكان دورهما يقتصر على تلخيص وتبسيط الأحاديث النبوية، وكذا زيارة المرضى العزل في المستشفيات بعد تدوين أسمائهم في كراس بالمسجد. وكنا نلاحظ أن جوا من الإخاء الصادق يجمع بينهم. وقد كانوا يتكلمون مع الناس بالحسنى ويعلمونهم طريقة الوضوء بدون مغالاة ويؤكدون لهم بأن الإسلام لا يعترف بالجنسيات، وبين الفينة والأخرى، كانوا يقضون ليلهم في المسجد. وخلال شهر رمضان الذي تزامن مع شهر يونيو، أخبرني رافاييل في آخر حديث جرى بيني وبينه بأنه سيقوم بهجرة إلى ماليزيا ليعيش إسلامه بكل هدوء». وقد وصل حسام وزوجته مايفا إلى سوريا في شهر فبراير 2013، ومن المحتمل جدا أنهما أقاما لبعض الوقت في رقة قبل أن يلتحق بهما الآخرون، وفي أثناء هذا الوقت، ظل الاتصال قائما بينهم وبين أعضاء مجموعة التبليغ في لونيل، تشهد على ذلك بعض الرسائل المتبادلة بينهم مع تواصيل إيداع النقود التي توصلت إلى جريدة ليبيراسيون إلى حيازتها. * عن جريدة «ليبيراسيون» نكاهان: 55% من المكالمات جاءت من عائلات غير عربية مسلمة - ما هو نوع الأسر التي تتصل بك؟ سأفاجئك إن قلت لك بأنه ضمن 650 مكالمة التي توصلنا بها بعدما فتحنا خطا أخضر، هنالك نسبة 55 في المائة من المكالمات جاءت من عائلات غير عربية مسلمة، من هذه النسبة، 44 في المائة فتيات و25 في المائة قاصرين. ومن بين الأسر التي تخشى على أبنائها من التطرف، هنالك طبقات متوسطة وعليا، فيها أطباء وموظفون كبار محترمون. - أليس هنالك وسطاء؟ بمعنى أن بعض الأسر تتصل بكم لتبلغ عن بعض التصرفات المقلقة؟ معك حق، نحن نشتغل للاتصال أكثر فأكثر بالأوساط الشعبية، ولكن هذا لا ينفي حقيقة مفادها أن الجهاد يمارس سحره على فئات متنوعة، فالتطرف يمكن أن يسير بسرعة كبيرة، ففي ظرف ثلاثة أو ستة أشهر، يمكن لشاب أن يلتحق بسوريا من أجل الجهاد. وما لاحظناه هو أن هذا الشباب يمكن أن يسقط في التطرف أثناء فترة يكون فيها في منتهى الهشاشة، أي أثناء بحثه عن هويته أو عن معنى يعطيه لحياته، أو في محاولته للهروب من واقع اجتماعي لا يرضيه. فهنالك مثلا شباب يشكو من نقص بعدما كان يرغب في الالتحاق بالجندية فأقصي بسبب إعاقة ما، وهنالك شباب يبحث عن المغامرة، وهنالك نوع آخر يهفو إلى القوة والعنف فوجد في الجهاد سبيلا لتحقيق ذلك. أما الفتيات، فعادة ما يقعن في سحر الخطاب الإنساني لدى المجنِدين، كما أن هنالك أقلية تشكو من اضطرابات نفسية. لهذا فالحكمة تقتضي أن ينقب الباحثون بجد عن مكمن الداء حتى يتسنى لهم الأخذ بيد من أخذوا يميلون إلى الانحراف. - ماذا تقترحون على من يتصلون بكم؟ نتناقش معهم ما يزيد على الساعة من الزمن. إذ فيهم من ذهب ابنه إلى الجهاد، وفيهم من يستعد لذلك، وفيهم من أخذ يتصرف بطريقة تدعو إلى القلق. ومهمتنا الأساسية تتمثل في تبيان من بدؤوا ينخرطون في مسلسل التطرف ممن يمارسون شعائرهم الدينية بكيفية عادية. ففي بلد لائكي كبلدنا، من حق كل واحد أن يمارس ديانته بالكيفية التي يرتضيها لنفسه، غير أن هنالك مؤشرات تسمى مؤشرات الانفلات، وهي التي عادة ما تدل على أن شابا ما قد بدأ يغوص في التطرف، منها أنه يشرع في مقاطعة أهله وأصدقائه، ثم ما يلبث أن يلجأ بعد ذلك إلى تغيير بعض العادات في أكله وملبسه. - كيف تتصرفون في مثل هذه الحالات؟ بغض النظر عن الجانب الزجري، فإن الدولة تطبق سياسة وقائية، ذلك أننا نحيط السلطات المختصة علما بكل ما يجري ونطالبها بدعم مزدوج: دعم الأسرة التي عادة ما تكون في محنة كبيرة وتكون بالتالي متحمسة لمساعدتنا على استدراك الموقف. ودعم يركز على المعني بالأمر بهدف انتشاله من هيمنة التطرف. أما بالنسبة للقاصرين، فهنالك تدابير نطبقها للحيلولة دون مغادرتهم لأرض الوطن. غير أن المهم من كل هذا، هو السعي إلى تخليص الشباب من هيمنة الخطاب الراديكالي الذي يسحره، وإقناعه بأن المنطق الطائفي هو من أعماه وليس المنطق الديني، ثم بعد ذلك إرجاعه إلى قسم الدراسة إن كان قد انقطع عنها. أما بخصوص الفتيات المسحورات بالخطاب الإنساني، فنحن نسعى إلى إقناعهن بأن هنالك طرقا بديلة لتحقيق ذلك. وفيما يتعلق بحالات الاضطرابات النفسية، فلمفوضية الشرطة شراكة مع مركز جورج دوفورو. لهذا نقول بأن مسألة التطرف لا يمكن حصرها في الجانب الديني أو في الجانب الاجتماعي، وإنما ينبغي اعتماد مقاربة معقدة يتداخل فيها الجانب النفسي والاجتماعي والمرضي والديني... الخ. - هل يعتبر الإنترنيت أداة مهمة من أدوات الاستقطاب؟ يحصل التجنيد عن طريق الإنترنيت بنسبة 90 في المائة. فالمواقع الاجتماعية تلعب دورا في غاية الأهمية. الفيسبوك مثلا وغيره من المواقع الأخرى يساهم مساهمة فعالة في تمجيد الجهاد وتحبيبه لدى الناشئة، خصوصا من طرف المستقطبين أو من طرف من ذهبوا إلى الجهاد وشرعوا يحببون لأصدقائهم الاستشهاد كوسيلة شريفة لدخول الفردوس. أما بالنسبة لبعض الشباب الذين يستهويهم العنف والقوة، فإن أشرطة تقطيع الرؤوس تمارس عليهم تأثيرا عميقا بليغا. كما أن هذه المواقع تستطيع استعمال وسائل ناجعة لاستمالة الشبان كألعاب الفيديو مثلا، أو إحالات إلى أفلام عنف لاقت رواجا كبيرا. إضافة إلى ذلك، يستعمل المستقطبون خطابات سخيفة موجهة إلى ضعاف النفوس يشعرونهم فيها بأنهم منبوذون من البشر قاطبة، وأنه يوجد مكان يمكن لهم فيه أن يكونوا سادة فضلاء، وما عداهم كفارا آثمين. بيير نكاهان.. عمدة واختصاصي في الوقاية من التطرف.. والكاتب العام للجنة الوزارية المكلفة بتطبيق الخطة الوطنية للوقاية من التطرف رافييل.. الشاب الذي اعتنق الإسلام في مدينة لونيل ثم مات في الجهاد يسمي الناس سكان مدينة لونيل «البيسكالونيس»، أي ما معناه بالإسبانية، صيادو القمر، إشارة إلى أسطورة مفادها بأن رجلا من المنطقة حاول أن يصطاد القمر بواسطة شراك مثقوب نصبه في قناة بنهر مدينة هيرولت. أما حديثا، فقد أنجبت المدينة البالغ عدد سكانها 26 ألف نسمة، ما يناهز عشرة فتيان ذهبوا للجهاد في سوريا، أربعة منهم قتلوا يوم 17 أكتوبر في مدينة دير الزور عقب قصف مكثف. وقد نعاهم إلى ذويهم أصدقاؤهم في سوريا بواسطة مكالمة هاتفية مقتضبة. وهم رافييل 23 سنة، وحسام 24 سنة، وأخوه صبري 18 سنة، بينما توفي أحمد 24 سنة في ظروف غامضة إثر نقله إلى المستشفى. وقد نشرت صور جثامينهم ثلاثة أيام بعد ذلك على مواقع التواصل الاجتماعية. ويبدو أن هذه القضية تعد في مدينة لونيل من الطابوهات، ذلك أننا اتصلنا بالسيد كلود أرنو،عمدة المدينة، لكنه أبى أن يتحدث معنا في هذا الموضوع على غرار باقي المنتخبين. وقد كان فيليب مواسونيين، المستشار البلدي عن الحزب الاشتراكي واحدا من القليلين الذين قبلوا موافاتنا برأيهم: »الكل كان يعرف هؤلاء الفتيان، والآن، وبعد أن مرت مراسيم الجنازة، ينبغي التنقيب في هذه القضية لمعرفة ما جرى بالتحديد...». وقد لمسنا من طرف السكان نفس الحرج والإعراض عن هذا الموضوع. ففي الأسواق والأحياء الهامشية، لاحظنا أن أصدقاء من ذهبوا للجهاد يرفضون التحدث عنهم وبالخصوص أمام الصحفيين. وبشق الأنفس، وجدنا في شخص السيد الطاهر أكرمي، وهو منشط يشتغل بالبلدية خير من يسلط بعض الأضواء على هذه النازلة، حيث قال: »لقد عرف هؤلاء الفتيان فشلا دراسيا ذريعا، ولكنهم كانوا على الرغم من ذلك طيبين ودودين. فأم حسام وصبري توفيت من زمان، بينما أم أحمد عانت كثيرا في تربية أبنائها لوحدها، وجميعهم كانوا يشتكون كثيرا من احتقار الناس لهم». ويعرف الطاهر أكرمي كذلك رافييل، الشاب الذي اعتنق الإسلام رغم مجيئه من وسط اجتماعي مغاير، ذلك أنه كان الابن الوحيد لإطار إعلامي ينتمي إلى عائلة يهودية، بينما أمه تشتغل طبيبة نفسانية. « فبعدما نال شهادة الباكلوريا سنة 2009، جاء عندي يقترح مساعدتي في الأوراش الموسيقية، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع بإفاضة واتفقنا على مواعيد أخرى، لكنه توارى عن ناظري بكيفية فجائية إلى أن جاءني ذات يوم بعدما اعتنق الإسلام وغير من طبيعة خطابه حيث قال لي: سأقدم عندك هذه المرة لكي ننشأ مجموعة للأمداح في المسجد... لكني رفضت فكرته. أما أحمد وحسام، فقد تغير تصرفهما وشكلهما معا، حيث أطلقا لحيتهما وشرعا ينشران الوعظ والإرشاد حولهما ولم يعودا يحضران الأنشطة التي كنت أنظمها بدعوى أنهما منشغلان بأعمال في المسجد». ومن بين أسر هؤلاء الشبان في لونيل الذين ذهب أبناؤهم للجهاد في سوريا، وجدنا أسرة رفاييل وحدها التي قبلت الإدلاء بشهادتها في الموضوع. وبما أنها لم تستطع دفن ابنها في مقبرة المدينة، فقد لجأت إلى غرس شجرة في حديقة البيت إحياء لذكرى الراحل. يقول والده متحسرا: »كان يحادث أمه يوميا من سوريا عبر «سكيب»، ويؤكد أنه مع الدولة الإسلامية دون أن يحارب معها، مكتفيا حسب زعمه بتوزيع المنشورات وبالمساعدة في مجال الإعلاميات». وقد حاول والداه بكل ما أوتيا من قوة إقناعه بلقائهما على الحدود التركية بهدف إرجاعه إلى فرنسا ولكن بدون جدوى. لقد كان رفاييل وهو في ميعة الصبا وسيما رياضيا مولعا بالموسيقى، وقد كان محبوبا من الجميع بسبب طيبوبته واحترامه للناس، وكانت له من قبل حياة طافحة بالنشاط، وحين بلغ سن الرشد، كان أول قرار أخذه هو اعتناق الإسلام، ولم يبح بذلك أول الأمر إلا لأمه التي غشيتها دوامة عنيفة من الرعب. يستطرد والده قائلا: »لقد فوجئت واحترت بدوري لما علمت بالأمر، وتبين لي بعد ذلك بأن صديقه ورفيقه القديم في الدراسة حسام، هو من أقنعه بعدما حكى له كيف أن انغماسه في الدين ساعده كثيرا على تجاوز ألم فقدان والدته». وبعد مناقشات عقيمة معه، استسلم والداه للأمر الواقع، بعدها مباشرة قاطع رافييل صديقته وانقطع عن الموسيقى التي كان يمارسها كعازف على القيثارة في أحد الأجواق الشبابية، ثم قام بعد ذلك بتعريف والديه على أصدقائه الجدد، وبالخصوص مصطفى، المكلف بالإشراف على الموقع الإكتروني الإسلامي ويك آب بروجكت، وحمزة، أحد أشقاء حسام، كما صار يعاشر بعض شباب مدينة لونيل وينظم معهم خلوات دينية في الضواحي. سنة بعد ذلك، سُجل في مدرسة للإعلاميات بمدينة مونبوليي حيث نجح بتفوق. وفي سنة 2012 ، وهو في سنته الرابعة بهذه المدرسة، قام بتدريب لمدة تسعة أشهر في إمارة البحرين حيث التحقت به أمه وأقامت معه هناك ثلاثة أسابيع. »لقد كان يبدو هادئا سعيدا وهو في منأى عن تأثير أصدقائه بمسجد لونيل»، يقول والده.