تشمل مدينة تطوان العديد من المآثر التاريخية والعمرانية، التي كان من الممكن استغلالها، سياحيا وثقافيا، كجزء من الذاكرة التاريخية والمعمارية للحمامة البيضاء. لكن في ظل غياب أي اهتمام بها، سواء من طرف المنتخبين أو المسؤولين أو وزارة الثقافة، تتعرض هذه المباني التاريخية لأبشع مظاهر الإهمال، فيما تسيل أخرى لعاب العشرات من المنعشين العقاريين. على بعد 6 كيلومترات من مدينة سبتة، تتراءى لنا ثكنة عسكرية كبيرة، تحولت إلى أطلال رغم كونها تعتبر إرثا تاريخيا لمدينة الفنيدق، وجزءا من ذاكرتها التاريخية المشتركة. فالثكنة التي كان يتوافد عليها الديكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو، تتميز بهندسة معمارية باروكية، وهو أسلوب فني انطلق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويتميز بزخارف كثيرة، فيما أضاف إليها فرانكو لمسات معمارية مستوحاة من نظيرتها بأمريكا الجنوبية. ووفق الأرشيف العسكري الإسباني الخاص بفترات وجود فرانكو في تطوان، فإن مدة تشييد الثكنة العسكرية بمنطقة «الريفيين» بالفنيدق، والتي لا مثيل لها بشمال المغرب، استغرقت أربع سنوات، من سنة 1923 إلى غاية 1927، حيث تم بعدها استقدام مجندين إسبان للتدريب العسكري، كما تم استعمالها لنقل العديد من الضحايا والجرحى الذين قتلوا أو جرحوا على يد رجال المقاومة، أو ما عرف حينها بالحرب الإفريقية. كانت الثكنة، التي تحولت الآن إلى أطلال، مكانا يستريح فيه الجنود والمحاربون الإسبان في انتظار الترخيص لهم بالسفر بعد استيفاء التزامهم العسكري، تقول الوثائق التي اطلعت عليها «المساء». وتضيف بعض وثائق الأرشيف العسكري أن الثكنة التي تخلت عنها إسبانيا للمغرب، بموجب اتفاق مشترك سنة1961، أصبحت في ملكية الجيش المغربي، الذي تركها مهملة، حيث أقام بجوارها بعض الشقق الصيفية لبعض الضباط العسكريين. وفي جولة للجريدة بالمنطقة عاينت آثار الإهمال الذي طال هذه البناية، التي حسب عدد من المهتمين بتاريخ تطوان، كان من الأجدر تحويلها إلى متحف بمدينة الفنيدق نظرا لتصميمها الفريد من نوعه ومساحتها الشاسعة وشكل بنائها، على غرار ما قامت به العديد من الدول الأوربية والعربية، التي حولت ثكنات عسكرية سابقة إلى مزارات تاريخية ومتاحف تعكس تلك الحقبة الماضية من تاريخها ولإنعاش ذاكرة جيلها. وتتضمن الثكنة مبنى رئيسيا، وبعض المباني الملحقة به، وأخرى كبيرة كانت مخصصة لغرف نوم واسعة مع أسرة بطابقين، وطاولات للأكل، وقاعات خاصة بالفصول الدراسية، كانت أرضيتها مزينه برخام فريد تم الإجهاز عليه. كما كانت، حسب بعض الوثائق الإسبانية، تضم مكتبة كبيرة، وقاعة خاصة بلعبة «البلياردو»، وبنايات أخرى للغسيل وتخزين الأسلحة والملابس، ومستودعا كبيرا خاصا بالأسلحة. ويتحسر سكان مدينة الفنيدق على إهمال هذه المعلمة التاريخية، التي كان من الممكن الحفاظ عليها وترميمها، في إطار إنعاش السياحة الثقافية والتاريخية بالمدينة، لا سيما أنها توجد على مشارف سبتة، كما تعتبر أول مبنى تاريخي يصادفك فور الدخول إلى التراب المغربي. من قصر إلى وكر للمنحرفين على مشارف حي «الطويلع» بتطوان تطل على ساكنة المدينة بناية كبيرة، محاطة بأشجار نخيل فريد من نوعه، أصبحت حاليا مجرد خراب، جراء الإهمال الفظيع الذي طالها. إنه قصر الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، وحديقته الخلابة المحيطة به، التي تعرف ب «جنان أحصار». كان القصر في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي يشبه قصر الحمراء بغرناطة الأندلسية، لكنه تحول اليوم، على حد قول زين العابدين الحسيني، المهتم بتاريخ تطوان، إلى خراب. ويتأسف زين العابدين على إهمال المسؤولين لهذه المعلمة التاريخية، مشيرا إلى أن القصر أصبح يؤوي المتشردين والقطط والكلاب الضالة. كما استحالت حدائقه إلى أرض قاحلة مستباحة لكل من هب ودب، بعد أن تخلى عنه أصحابه وانتهت ملكيته، كما قيل له، إلى مؤسسة بنكية. وفي محاولة لتسليط الضوء على هذه المعلمة تم إحداث جمعيتين، هما «جمعية أجيال للتعاون والتنمية البشرية»، و»جمعية اجنان الخليفة مولاي الحسن بن المهدي»، اللتان تحاولان الدفاع عن هذه المعلمة، وصيانة الذاكرة المشتركة لساكنة هذه المدينة التي تعتبر المعلمة جزءا منها، في محاولة منهما لإقناع وزارة الثقافة بإعادة الاعتبار إلى قصر الخليفة وترميمه، وإدراجه ضمن قائمة التراث الوطني، وحمايته والحفاظ عليه كمكتسب تاريخي فريد. لكن رغم مرور أكثر من سنتين، فلا أحد من المسؤولين أبدى رغبة جدية في ذلك، ما عدا تنظيم بعض الندوات التي تخلص عادة إلى توصيات تبقى حبرا على ورق. ففي شهر مارس من السنة الجارية تم عقد اجتماع بأحد المقرات الفرعية بالرباط، التابعة للمؤسسة الثقافية الإسلامية التي تعمل في مجال المحافظة على التراث الإسلامي، حضره المنسق العام لمشروع المحافظة على معلمة جنان وقصر الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، وممثل عن «جمعية أجيال للتعاون والتنمية»، وممثل عن «جمعية اجنان الخليفة مولاي الحسن بن المهدي»، وامرأتين عضوين من طرف المؤسسة. وقد تطرق اللقاء، حسب الجمعيتين، إلى إمكانية دراسة سبل الاستفادة من خبرة المؤسسة الثقافية الإسلامية في ترميم المباني التاريخية وإعادة بناء الحدائق التراثية ذات الطابع الأندلسي على غرار ما قامت به المؤسسة بترميم منشأة تاريخية وإنشاء حديقة أندلسية تراثية بالرباط. لكن رغم الوعود المقدمة، فإن مآثر تطوان لا تدخل ضمن أولوية اهتمامات وزارة الثقافة، ولا جهة طنجة-تطوان، ماعدا بعض الوعود كتلك التي يقدمها رئيس الجماعة الحضرية لتطوان. وقد تم خلال اللقاء المذكور تقديم عرض من طرف الجمعيتين تطرق إلى مكانة معلمة قصر خليفة مولاي الحسن بن المهدي ومنتزهه، وما يختزله من حمولة تراثية وتاريخية وسياحية، يقول بلاغ صدر عنهما، مضيفا بأن الاجتماع تناول المشروع المقترح من طرف الجمعيتين، مع المجالس المنتخبة وسلطات الوصاية والقطاعات الوزارية. وتهدف مبادرة الجمعيتين إلى الحفاظ على كل من الموقعين الأثريين: قصر الخليفة مولاي الحسن بن المهدي ومتنزه اجنان خليفة. كما تم تقديم ملتمس رسمي إلى وزير الثقافة لتسجيل الموقعين ضمن قائمة التراث الوطني. وحسب المهتمين، فالإهمال الذي يطال معالم الحمامة البيضاء يكشف عن تجاهل فظيع سواء من طرف المنتحبين أو المسؤولين أو وزارة الثقافة. فالمدينة التي أصبحت تراهن على دعم السياحة لا يمكنها أن تحقق أهدافها دون الاهتمام بالمواقع والمعالم التاريخية لها، التي تبقى عرضة للاستيلاء عليها من طرف منعشين عقاريين، أو للترامي عليها من طرف آخرين. قصبة جبل درسة.. وكر للمنحرفين وملاذ للمشردين على أعلى مرتفع بجيل درسة تطل بناية ضخمة تسمى «القصبة». هذه البناية الضخمة، التي تمتد على مساحة شاسعة، بنيت قبل حوالي 100 سنة، لتكون مقرا عسكريا إبان فترة الحماية لفيالق جيش المشاة والخيالة المعروف باسم «الريغولاريس»، الذي كان يضم في صفوفه العديد من المغاربة. لا يتوقف كل زائر لمدينة تطوان عن السؤال عن هذه البناية التي تجثم وسط المدينة، لكنهم يصطدمون فيما بعد بمنظر الخراب الذي لحقها، بعد أن تحولت إلى ملاذ ووكر للمنحرفين. ولا تتوقف أصوات سكان تطوان والمهتمين بتراثها عن المطالبة بتحويلها إلى قاعة للمؤتمرات أو للعروض الثقافية، نظرا لما تتميز به من معالم هندسية رائعة. لكن القيادة العامة للقوات المسلحة اعتذرت عن ذلك، حسب مصادرنا، بمبرر عزمها تحويلها إلى متحف كبير للذاكرة العسكرية المغربية. مر على اعتذار القيادة العامة أكثر من 14 سنة، يقول مصدرنا، مشيرا إلى أن ذلك جاء ردا على اقتراح كان قد قدمه الحبيب الخراز، رئيس المجموعة الحضرية لتطوان، سنة 2000، دون أن يتم أي ترميم أو إصلاح. لقد سبق للحبيب الخراز أن ذكر في تصريحات صحافية له أن تشييد القصبة جاء سنة 1916، بناء على أوامر ملك إسبانيا ألفونصو الثالث عشر، القاضية بتشكيل وحدات من القوات النظامية الأصلية «الريغولاريس» بتطوان، التي اتخذت مركزها بالقصبة المذكورة، طبقا لمواصفات هندسية معمارية أندلسية، تمتد على مساحة 40 ألف متر مربع. في سنة 1961 تم إخلاء القصبة نهائيا، لتتعرض بعد ذلك جميع محتوياتها الفخمة، من أبواب وأثاث ومفروشات، وكذا نافوراتها ذات الطبع الأندلسي، للسرقة لتتحول حاليا إلى ملاذ للمنحرفين بسبب إهمال السلطات المنتخبة ووزارة الثقافة. كنيسة سجن المطامير تتناسل حكايات مختلفة حول سجن المطامير الموجود تحت الأرض بالحي، الذي يحمل نفس الاسم، على لسان سكان تطوان، وإن كان جلهم لم يحظ لحد اليوم بشرف زيارته. فالمكان مقفل منذ أكثر من قرن، وتم فتحه فقط مرتين من طرف رجال المطافئ للاطلاع عليه، دون أن تكلف وزارة الثقافة أو الجماعة الحضرية لتطوان نفسها عناء ترميمه وتحويله إلى متحف للسياح، سواء المغاربة أو الأجانب. فالسجن المذكور كان في الأصل عبارة عن كنيسة يتجاوز عمرها حاليا أربعة قرون، خاصة بالسجناء تحت الأرض، تم تشييدها وحفر سردابها بالمدينة العتيقة، كمكان للعبادة خاص بالسجناء المسيحيين، الذين كان مؤسس مدينة تطوان سيدي المنظري يعتقلهم خلال عملياته الجهادية خلال القرن السادس عشر. وحسب المؤرخين، فإن كنيسة سجن المطامير ذات التاريخ العريق جعلت من ممرات الأنفاق القديمة تحت مدينة تطوان مكانا لها، حيث كانت تعتبر جزءا من السجن الذي كان يؤوي المسيحيين الغرناطيين، الذين كانوا يشتغلون خلال النهار في بناء أسوار مدينة تطوان الدفاعية، التي يبلغ طولها 5 كلم وسمكها 1,20 متر، أما علوها فيتراوح بين 5 و7 أمتار. تتميز الكنيسة بشكلها المعماري الفريد، حيث يوجد بها صليب مسيحي ذو أربعة أقواس، بالإضافة إلى منور بالسقف يأخذ شكل قبة محفورة. كما أن الفجوات الموجودة بالمنور مغطاة بالجير والآجر. وتحتوي الكنيسة الأثرية أيضا على طاولة كانت تستعمل كمائدة الهيكل، وعلى العديد من السلاسل الحديدية التي كان يتم بها تقييد السجناء. قبل سنة تم أيضا تقديم مشروع لإعادة تأهيل السجن التاريخي، غطت تفاصيله القناة الثانية، وعقدت له اجتماعات عديدة، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فالسجن مازال على حاله، مغلقا في وجه العموم، دون أن يعرف أي ترميم، لتبقى معالم تطوان معرضة للاندثار بدل استغلالها سياحيا وثقافيا وتاريخيا. ويقول محدثونا إن معالم وآثار تطوان يجب أن تكون نافذة للناس كي يطلوا منها على تاريخهم وتراثهم وذاكرتهم، وعلى ما تختزله من قصص تجمع بين التاريخ والعمران، من أجل حفظ الذاكرة التاريخية الوطنية العمرانية وتاريخ تطورها وتوثيقها. ويضيفوا أنه لا توجد مراكز خاصة بذلك في تطوان، ولا مكتبات تحفظ ذاكرتها التاريخي، ما عدا بعض الندوات ومحاولات بعض الجمعيات التي تطالب بترميمها وإصلاحها، نظرا لما تشكله من هوية خاصة تطبع ذاكرة ساكنة تطوان.