يبدو أن البعض لا يريد لهذا البلد لا إصلاحاً ولا تقدما، هذا «البعض» يشده الحنين إلى سنوات الرصاص الاقتصادي الذي كان فيه الريع هو المتحكم وكانت ثروات المغرب تُهدر دون حسيب ولا رقيب. ولأن بعضهم لم تطله العدالة رغم أنه «كْلاحقُّو»، فلم يعد يخجل من التطاول على الحقائق ويحرفها بالشكل الذي يخدم مصالحه الآنية ويعيد ترميم عذريته طمعاً إما في المناصب أو لإبراز فزاعة فضح أشياء توهمها وصدقها. أجد نفسي مضطرا للحديث مرة أخرى عن القرض العقاري والسياحي من جهة والمكتب الشريف للفوسفاط من جهة أخرى بعد أن طلعت بعض الكتابات بقراءات أغرب من الخيال. لقد تابع المغاربة فصول ملف «السياش» وآلمهم أن العدالة طالت فقط موظفين منفذين لأوامر الرؤساء الكبار دون أن تلمس نفس العدالة رجال الأعمال والزبناء الكبار الذين استفادوا من ملايير هذا البنك العمومي الذي تعتبر أمواله عمومية. حتى هذه أرادوا أن ينكروها عليه وقالوا دون خجل إن أموال «السياش» ليست عمومية لأنه خاضع للقطاع الخاص بحكم انتماء المساهمين فيه، في إشارة إلى صندوق التوفير الفرنسي، متناسين أن القضية تفجرت لما كان هذا البنك في ملكية الدولة بالكامل وكان «مراقبا» من طرف بنك المغرب ومجموعة وزارات، وحتى اليوم لا يمكن الحديث عن «السياش» كبنك خاص ف %67 من أسهمه، أي الأغلبية، مملوكة من طرف صندوق الإيداع والتدبير وهو مؤسسة عمومية. ما لم تذكره تلك الكتابات هو تقارير تبديد المال العام في صفقات عمومية مشبوهة موثقة ومازال الشهود عليها أحياء. صفقات فوتت لشركات «مقربة» بأسعار تفوق بكثير ما قدمه المنافسون.. أليس هذا تبديداً للمال العام؟ اقتناء عقارات بأسعار مضاعفة مرتين عن السعر الحقيقي، وأستغرب أن يأتي اليوم من يقول إنه لم يكن في الأمر تبديداً لأن «السياش» باع نفس العقارات سنوات بعد ذلك بضعف السعر أو أكثر. ما يهم هو سعر الاقتناء لأن مضاعفته تفرز عند البيع ما يطلق عليه البنكيون نقصا في الربح manque à gagner، أي أن «السياش» كسب أقل مما كان متاحاً له ... أليس هذا تبديداً؟ وإذا أرادوا الأمثلة نحيلهم فقط على عقار عين السبع رقم G/5535. لم تتحدث هاته الكتابات عن شركة «أطلس» العقارية، التي أنشأها «السياش» سنة 1994 في ظروف غامضة وبأسماء مسؤولين بارزين فيه لتمويل اقتناء ضيعات زبون كان في صعوبة أداء، وهي الشركة التي طالتها العشوائية في التسيير ليخسر «السياش» من ورائها أزيد من ستة ملايير.. أليس هذا تبديداً؟ وكلمة تبديد تبدو في غاية اللياقة! أما إذا دخلنا عالم ملفات القروض الممنوحة للزبناء فذلك عالم آخر بحيث تختلط الأسماء الرنانة لأصحاب المشاريع بالملايير التي تسترد أو استرجعت ناقصة جراء مفاوضات تمت في ظروف غير سليمة، والتي اضطر معها «السياش» للتنازل عن عشرات الملايير لاسترجاع أصل الدين أو جزء منه. وهنا نجد هدراً حقيقياً لعشرات الملايير، وأسماء تلك المشاريع شاهدة على فصل أسود من تاريخ «السياش» وهو تاريخ لا يمكن أن يمحوه «البعض» اليوم بمجرد كتابة هنا أو هناك. إن الأرقام ثابتة وعنيدة وتخلي الدولة عن متابعة كل من ساهم في هدر المال العام أو شارك فيه، بمن فيهم زبناء أصحاب أسماء رنانة، يعتبر أكبر خطأ ارتكبته الدولة وضيعت بذلك على نفسها وعلى المغرب فرصة القطع بصفة نهائية مع سنوات الريع الاقتصادي، وربما هذا ما شجع البعض على الخروج اليوم من جحورهم واتهام نفس الدولة بالظلم والجور والقول إنه لم يكن هناك أي هدر أو اختلاسات. لقد اشتغلت عدة سنوات بالقطاع البنكي وأعرف كيف تمر المفاوضات من أجل «مسح» قروض بالملايير وكيف تخلت بنوك «خاصة» عن ملايير لفائدة زبناء مشتركين مع «السياش» اسمهم «يلعلع» في تقرير الفرقة الوطنية للشرطة القضائية وتقرير لجنة تقصي الحقائق، لذلك لا يمكن اعتبار مجرد «مسح» دين من محفظة ديون «السياش» هو نصر لهذا الأخير واسترجاع لأمواله.. ويمكن أن نستفيض أكثر ونفوض في الملفات لنجزم بأنه كان هناك أكثر من تبديد وهدر للمال العام في «السياش» وفي مؤسسات أخرى أخرت المغرب عقوداً وزادت فقره والنتيجة يؤديها أبناء هذا البلد اليوم. ومع ذلك يكتب البعض بدون خجل عن الحنين لسنوات الضياع.. سنوات كان المغاربة يسمعون فقط عن الملايير في حين كان المنتفعون لا يعرفون هذا البلد إلا لحلبه، وسنعود لاحقاً لحكاية أخرى في نفس السياق لكن هذه المرة عن المكتب الشريف للفوسفاط.