نتائج الانتخابات التشريعية التي نظمت يوم 26 أكتوبر بتونس بينت من جديد أن هذا البلد في مقدمة التحول الديمقراطي في العالم العربي منذ مظاهرات يناير 2011، حيث شكلت هذه الانتخابات ثاني امتحان اجتازته الديمقراطية التونسية الفتية، بعد تنظيم أول استحقاقات حرة وشفافة على إثر سقوط نظام بن علي. وفوز حركة نداء تونس، التي يقودها الباجي قائد السبسي، بالمرتبة الأولى وإعلان حركة النهضة قبولها بهذه النتائج قد يطمئن كل من كان يشك في مدى التزام الإسلاميين بمبادئ التناوب الديمقراطي. ودون شك، فإن رغبة حركة نداء تونس في «استرجاع» سلطة الدولة وتركيزها على القضايا الاقتصادية مع انضمام العديد من «التقنقراط» إلى صفوفها من ضمن العوامل العدة التي قد تفسر نتائج الانتخابات التونسية. كما تضم الحركة العديد من اليساريين وأعضاء سابقين بحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي حكم تونس منذ أن أسسه الرئيس بن علي سنة 1988. وفوز نداء تونس لا يعني رجوع وجوه النظام السابق إلى السلطة، لكنه يعطيهم فرصة للعمل داخل مؤسسات ديمقراطية بنيت على أساس توازن السلط ومنح المعارضة صلاحيات واسعة تسمح لها بمراقبة الحكام في محيط يلعب فيه الإعلام والمجتمع المدني، كذلك، دور المراقبة واليقظة الديمقراطية. وفي كثير من تجارب الانتقال الديمقراطي، لعبت نخب الأنظمة السلطوية السابقة دورا في تدبير شؤون الدولة بفضل تجربتها وعلاقتها بعالم المال والأعمال، إلا أنها تقوم بهذه المهمة في ظل قواعد جديدة للعبة السياسية. وبعبارة أخرى، فإن الانتقال الديمقراطي التونسي كان ناجحا بسبب المزيج بين المناضلين المؤمنين بالقيم الديمقراطية والفاعلين «البراغماتيين» من النظام السابق المستعدين للتأقلم مع النظام الديمقراطي من أجل الحفاظ على مصالحهم ومواقع النفوذ داخل المؤسسات الجديدة. وقد ساهمت حركة النهضة كذلك، وبشكل كبير، في الانتقال السياسي التونسي بفضل التزامها بالمبادئ الديمقراطية والاجتهاد الفكري والفقهي الذي شرع فيه مؤسسها ورئيسها راشد الغنوشي الذي نظر للأسس الإسلامية الديمقراطية في كتبه «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام» و»الحريات العامة في الدولة الإسلامية». لكن تجربة النهضة في الحكم لم تأت بنتائج ملموسة على مستوى الحركة الاقتصادية في قطاعات حيوية للاقتصاد التونسي مثل السياحة، بل تدهورت الأوضاع الاقتصادية وارتفعت نسبة البطالة بالخصوص ضمن الشباب. وفهمت حركة النهضة أنه يمكنها الحفاظ على دور أساسي في المشهد السياسي والمجتمع التونسي دون التمسك بالضرورة بالسلطة الحكومية، بل إن قدرتها على التنازل والتوافق مع قوى سياسية أخرى هو الكفيل بضمان مستقبلها في المؤسسات الديمقراطية. وهذا التوازن بين حركتي نداء تونس والنهضة، الذي هو توازن بين الماضي والمستقبل، من شأنه أن يطمئن المجتمع التونسي الذي يرغب في التغيير الديمقراطي الحقيقي ويريد في الوقت نفسه الحفاظ على الاستقرار والنمو الاقتصادي مثل جميع المجتمعات العربية.