لأول مرة، يحكي البشير الهسكوري، المستشار الدبلوماسي في صندوق النقد العربي في أبوظبي، مرفوقا بشقيقه صالح، أستاذ الرياضيات في جامعة الأخوين، سيرة والدهما، احمد بن البشير الهسكوري، الرجل الثاني داخل قصر الخليفة، مولاي الحسن بن المهدي، والذي كان يلقب ب»البحر» والحاكم الفعلي. على «كرسي الاعتراف»، يحكي الهسكوري كيف وضع السلطان مولاي عبد العزيز ابنته، للا فاطمة الزهراء، بين يدي والده وهو يقول له: «بنتي في حجرك وفي حجر الله يا بن البشير»، وكيف رفض محمد الخامس زواجها من مولاي الحسن، وبالمقابل اعترف بابنٍ لمولاي عبد العزيز ظل ينكر نسبه إليه. في هذا الحوار الاستثنائي، نتعرف على خفايا التنافس على العرش، والصراع الذي عاشه الخليفة مولاي الحسن، بين الوفاء للسلطان محمد بن يوسف، وتأييد صهره محمد بن عرفة، وكيف أن الصدر الأعظم، المقري، انتقل إلى طنجة ليقول لبن البشير: «عافاك قل لصاحبك لكلاوي يرجع لعقلو». في «كرسي الاعتراف»، يحكي الهسكوري صراع والده مع المقيم العام الإسباني، الجنرال غارسيا بالينيو، الذي اتهمه بمحاولة قتله، وكيف أرسل الجنرال فرانكو ابنته كارمن إلى بن البشير لتلطيف الأجواء. في هذا الحوار، نكتشف أسرار دعم بلبشير للمقاومة الجزائرية بالسلاح، وعلاقته ببوضياف وبن بلة وفرحات عباس، وكيف أنجز وثائق مغربية مزورة لبومدين وأدخله مستشفى بنقريش للعلاج من مرض السل. كما نطلع، حصريا، على عشرات الرسائل المتبادلة بين بن البشير وأمين الحسيني والتي يعترف فيها الأخير للأول بدعم المقاومة الفلسطينة بالمال. - تميزت سنة 1954 بأحداث ووقائع مطردة ومكثفة، سواء على مستوى الوعي والفعل الوطني أو على مستوى ردود الأفعال الاستعمارية، الفرنسية والإسبانية، التي كانت غايتها تطويق ومحاصرة التحركات الوطنية؛ اِحك لنا بعض تلك الأحداث والوقائع.. لقد كانت والدتي تطلق على سنة 1954 «عام جقلالة»، إذ في تلك السنة تزايد النشاط الوطني مسنودا من الشرق، وأساسا مصر؛ كما أن الإسبان والفرنسيين ضاعفوا من جهودهم لكبح هذا النشاط والتضييق عليه تأبيدا للوضع القائم؛ حيث عمد المقيم العام الإسباني في تطوان، رفاييل غرسيا بالينيو، خلال تلك السنة، إلى حشد أعيان القبائل والقياد والباشوات في «سانية الرمل بتطوان» استعدادا لإعلان الخليفة مولاي الحسن بن المهدي ملكا على الشمال. وعندما أحبط والدي مخططه هذا، حاول بالينيو مرارا، بالتخطيط مع فرنسا، نقل الخليفة مولاي الحسن بن المهدي إلى الرباط ليكون ملكا للمغرب بدل ابن عرفة. وعندما عرف بالينيو أن والدي (رئيس ديوان القصر الخليفي) هو من يحصّن مولاي الحسن ضد الانجذاب إلى ضغط الدولة الإسبانية، اتهمه بمحاولة قتله ثم جرجره إلى المحاكم العسكرية، وكل ذلك لفصله عن الخليفة مولاي الحسن. لا ننسى أن الوطنيين كثفوا، خلال هذه السنة، ضغطهم من مصر وأمريكيا على الإسبان والفرنسيين، كما نجح مكتب المغرب العربي بالقاهرة في فك العزلة عن شمال المغرب عندما ربط مصير المغرب ككل باستقلال باقي الأقطار المغاربية: الجزائر وتونس ومراكش (المغرب). كما أنه في السنة الموالية (1955)، أعطت الجزائر دفعة للوطنية المغربية حين تم إنزال شحنة السلاح الذي حملته الباخرة المصرية «دينا» قرب الناظور، وكانت الشحنة مكونة من: 300 بندقية من عيار 30,3 ملم، و30 مسدسا رشاشا من نوع «بيرن»، و100 بندقية رشاشة من نوع «طومي»، بالإضافة إلى كمية كبيرة من الذخيرة. وقد كان ثلثا هذه الشحنة موجهين إلى الجزائريين فيما كان الثلث الباقي موجها إلى المغاربة. وقد كان المشير محمد عبد الحكيم عامر، وزير دفاع جمال عبد الناصر، هو المسؤول على نقل تلك الأسلحة إلى المغرب، حسب ما حكاه لي، شخصيا، السي ابراهيم النيال السوداني، قائد السفينة «دينا، والذي عاش بقية حياته في المغرب وكان مرافقا للدكتور عبد الكريم الخطيب. - من جملة الذين وفدوا إلى المغرب على متن الباخرة «دينا» كان هواري بومدين.. نعم، كان ضمنهم محمد بوخروبة (هواري بومدين)، كما كان ضمنهم أيضا محمد بوضياف الذي كان هو من نسق مع الوطنيين المغاربة، وأساسا المقاوم السي احمد زياد، عملية رسو الباخرة «دينا» بالشواطئ المغربية. - ماذا كانت علاقة والدك بهذا الموضوع؟ كان صحافي من أصول تونسية هو المنوبي المكناسي (كان مسؤولا عن وكالة الأنباء الفرنسية «AFP»، وهو خال الإخوة بوريكات) على معرفة بالوطنيين في كل من المغرب والجزائر وتونس طبعا. وقد كان المنوبي يعتقد أن فرانز فانون يوجد على متن الباخرة «دينا» (فرانز فانون طبيب نفسانيّ فرنسي أسود، أصله من جزر المارتنيك، حارب خلال الحرب العالمية الثانية إلى جانب الفرنسيين ضد النازية، ثم ألحق بالجزائر كطبيب عسكري، وهناك انخرط في صفوف جبهة التحرير الجزائرية، ودفن بعد وفاته في مقبرة مجاهدي الحرية الجزائريين) حسب ما حكاه لي حين التقيت به في الثمانينيات وهو يستعيد كثيرا من تفاصيل تلك الفترة، والتي منها أنه كان يبحث في مستشفيات تطوان ونواحيها على فرانز فانون هذا، بعدما تناهت إلى علمه معلومة مشوشة عن كون أحد الذين جاؤوا على متن الباخرة «دينا» يرقد بأحد مستشفيات نواحي تطوان، فظن أن الأمر يتعلق بفرانز فانون. وأثناء بحثه، عثر صدفة على محمد بوخروبة، الذي كان والدي قد أدخله إلى مستشفى دار بن قريش للأمراض الصدرية باسم مغربي مستعار. وبعدما علم والدي بأن الصحافي المنوبي المكناسي اكتشف أمر بوخروبة (بومدين) توجه إليه قائلا بلهجة صرامة: إذا تحدثت أو كتبت في الموضوع فسأحرمك نهائيا من دخول المنطقة الإسبانية، وقد حافظ المنوبي المكناسي على السر. - سبق أن حكيت لي (على هامش الحوار) أن جزءا من شحنة الباخرة «دينا» من السلاح تم تخزينه في منزلكم (حيث أجري الحوار، جوار القصر الملكي بتطوان)؛ كيف تم ذلك؟ أغلب السلاح الذي حازته المقاومة المغربية، والذي دخل إلى تطوان، كان عبارة عن قنابل يدوية «Les grenades»، وكان منزلنا هذا من جملة الأماكن التي خزن فيها السلاح إلى جانب «جنان الطريس» وبعض المنازل الأخرى في تطوان. وقد قال لي الفقيه عزيمان (والد المستشار الملكي) إنه هو وعدد من الوطنيين في تطوان كانوا على اطلاع على ما يقوم به والدي مع المقاومة، وإن ذلك السلاح كان أساسا لتدريب مقاومي «المنطقة الفرنسية»، ولكنهم كانوا يلتزمون الصمت؛ كما أخبرني بأن ذلك السلاح الذي كانت تنقله والدتي، سرا، رفقة نساء أخريات، كان يودع في الجنان الذي منحه الخليفة لسيدي بركة، ومن هناك كان ينقل إلى «جنان الرهوني». وقد حكت لي والدتي أنها، رفقة نساء أخريات، كن ينقلن جزءا من السلاح إلى طنجة، وكان يسلم إلى بن عثمان الصنهاجي، صهر المقاوم ابراهيم الروداني، وقد كان بن عثمان الصنهاجي هو اليد اليمنى للدكتور الخطيب في طنجة. - كيف كانت والدتك تنقل السلاح إلى طنجة وهناك حدود و»ديوانة»؟ لقد كان والدي يسوق سيارته ومعه والدتي والنساء محملات بالسلاح الخفيف -حيث كان أغلبه عبارة عن مسدسات- في اتجاه طنجة، فلم يكن أحد يشك فيه أو يجرؤ على إيقافه لإخضاعه للتفتيش.