لم تنفصل الثقافة عن الصحافة، ولم يكن أحد هذين الجسمين بعيداً عن الآخر، أو غريباً عنه. من يَعُد إلى تاريخ الصحافة، وإلى ما تنطوي عليه الجرائد من مقالات وأعمدة وحوارات ونصوص، سيجد الثقافة حاضرةً، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الصحيفة، فهي كانت إحدى النوافذ التي منها يُطِلُّ الكُتَّاب والمفكرون والمبدعون، على القُرَّاء، ويصلون إليهم. في الغرب، كما في الشرق، لا صحيفةَ قَطَعَت مع الثقافة، أو اعتبرتْها خارج اهتمامها، فالصفحات الثقافية كانت يومية، أو شبه يومية، وكانت مواكبةُ الإصدارات، وقراءة الكتب أو نقدها، ونشر النصوص الإبداعية، والنقاشات، أو المعارك التي كانت تدور بين الكُتَّاب، والأعمدة الثابتة، بين أهم ما حَرِصَت الصحف على وجوده بين طياتِها. فالحاجة إلى الثقافة كانت بنفس الحاجة إلى معرفة ما يجري في المجتمع، وما يدور في دهاليز السياسة وسراديبها. ثمَّة كتب، هي اليوم، من بين مصادر المعرفة العربية الحديثة، خَرَجت من الصفحات أو الملاحق الثقافية، التي كانت الرَّحِم الأولى، التي منها خرجت هذه الأعمال إلى النور، وانتقلت من وضع الجنين إلى وضع الكِتاب، أو المُؤلَّف. أغلب أعمال طه حسين والعقاد، وبعض روايات نجيب محفوظ وقصصه، وكتابات مفكرين وفلاسفة حديثين من مصر أو من بلاد الشام، وحتى من تونس والجزائر والمغرب، كانت في أصلها مقالات نُشِرت في الصفحات والملاحق الثقافية، ما جعل هذه الصفحات والملاحق تكون شرفةً للمواكبة، ولِمُلاحقة ما يجري في المشهد الثقافي العربي. فالمغرب كان يتقَصَّى أخبار الشرق من هذه الشُّرفات نفسها، وكانت الجريدة كنزاً ثميناً بالنسبة للمثقفين، ومن يهمهم شأن الثقافة الفكر والمعرفة الإبداع. ولعل ما كان يصدر من جرائد في شمال المغرب، بإشراف مثقفين وعلماء، بالمعنى التقليدي للكلمة، يكفي لنعرف أهمية الثقافة في علاقتها بالصحافة. ودون أن نسرد بعضاً من تاريخ هذه العلاقة، والجرائد أو الصحف التي كانت تستضيف المثقفين، بسخاء وكرمٍ كبيرين، يكفي أن نبقى في حدود التاريخ المعاصر، أو اللحظة القريبة منا، التي عشناها، كقُرَّاء، قبل أن نعيشها ككُتَّاب ومُساهمين فيها كتابة ونشراً. لا أحد يُجادِل في ريادة الملحق الثقافي لجريدة «العلم»، ولا في الدور الثقافي الكبير الذي سيلعبه ملحق جريدة «المحرر». شرفتان، واحدة للفكر اليميني، «السلفي»، أو «الرجعي» وفق ما كانت تجري به الألسُن والأقلام، والأخرى للفكر اليساري، الاشتراكي، التقدمي. صراع لم تكن السياسة هي ما يؤجِّج جَمْرَه، فالثقافة كانت بين أهم الأسلحة التي استعملها كل طرف في مواجهة الآخر، وهو ما سينعكس على المؤسسات والجمعيات الثقافية نفسها، خصوصاً، في دُورِ الشباب، والأندية السينمائية. من ينشر في «العلم» لا مكان له في «المحرر»، وقد يكون حَكَم على نفسه بالانتماء للطرف المعادي، أو للفكر «الرجعي»، «الماضوي». هذا الصراع السياسي أفضى إلى تصنيفات، بقدر ما ضَبَّبت المشهد الثقافي وعَتَّمَتْه، بقدر ما ساعدت على انحسار الفكر والإبداع، في سياق مغلق، هو سياق الصراع السياسي، الذي تتحكم فيه التوجهات الأيديولوجية لكل طرف من الأطراف المتصارعة، وسيبقى الإبداع والخلق وإثارة الأسئلة الحقيقية مُؤَجّلاً إلى حين. هذا الصراع استمر في النسخة الثانية ل»المحرر»، أي في الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وسينضاف إلى هذا المشهد ملحق جريدة «أنوال» التي كانت تمثل فصيلاً آخر من اليسار، له فكره، ورأيه في ما يجري، لكنه هو الآخر، بقي على نفس المعنى، أو التوجُّه الذي كان فيه الانتصار للفكرة، أهم من البحث في القضايا الفكرية والإبداعية الأساسية والكبرى، رغم ما فتحه هذا الملحق من ملفات ذات أهمية خاصة، آنذاك. وهذا ما جعل الإبداع والنقد، في هذه الصفحات والملاحق، يكون حَطَباً في أتون السياسة، وليس منفصلاً عنها، على الأقل في أن يكون موازياً، بما يطرحه من أسئلة، وما يقترحه من نصوص وأفكار. ملحق جريدة «الميثاق الوطني» لم يكن له أي تأثير، أو حضور، أو هو كان بمثابة الحاضر الغائب، أو الشرفة التي لا نافذة لها. وكما يكتب الشاعر إدريس الملياني، عن تجربته في ملحق جريدة «البيان»، فهذا الملحق بدوره خرج من كنف الحزب، وجاء بقرار من قيادة الحزب، رغم أن الفكرة جَهَر به مثقفون وكتاب. ما يعني أنَّ استقلالية الثقافة في هذه الصحف، كانت أمراً مستحيلاً، وهي، رغم بعض هوامش الحرية، لا تخرج عن سياق هذا الفكر الذي يُحْصِي على المثقف ما يقوله، وما قد يصدر عنه من نقد. هل يمكن للجرائد المستقلة، التي هي اليوم، بمثابة الشرفات الجديدة في المشهد الصحافي، والثقافي أيضاً، أن تسمح بهذه الحرية، واستقلالية القرار الثقافي، وجرأة المثقف، في أن ينتقد ويقول ما يفكر فيه، دون أن يُصادَر رأيه، أو يُقَصُّ كلامُه، أو يُحرَّف ويُكَيَّف هذا الكلام وِفْقَما تريده هذه الجريدة أو تلك؟ هذا هو السؤال الذي علينا تأمله في ما يُنْشر في الصفحات والملاحق الثقافية لهذه الجرائد، قياساً بجرائد الأحزاب. فحرية الثقافة، واستقلالية قرارها رهين بما يجده المثقف من حرية وسَعَة صدر في هذه الصفحات والملاحق، خصوصاً اليوم، وفي ظل ما تطلع علينا في الموقع الإلكترونية، وصفحات الفايسبوك والتويتر، من جرأة وسبق في الرأي، رغم أن العديد منها ما زال يحتاج لفهم معنى الحرية، وما تقتضيه من مسؤولية وصواب القرار؟.