رغم أن الحسابات الخصوصية، أو الصناديق السوداء كما هو متداول، تعتبر في أعراف المالية العمومية آلية استثنائية يتم تفعيل العمل بها بغية تحقيق أكبر مستوى من المرونة في التدبير المالي للمشاريع والبرامج الحكومية المهيكلة التي لا تحتمل التأخير، فإن سنوات من غياب الرقابة والمراقبة على تلك الحسابات، التي ترصد لها مبالغ هامة جدا من مالية الدولة ومن أموال دافعي الضرائب، تعيدها إلى الساحة في كل سنة مع انطلاق المناقشات حول مشروع القانون المالي. فإلى أي حد استجابت حكومة بنكيران هذه السنة لمطالب تقليص هذه الحسابات وتعزيز مستوى شفافيتها وتسهيل مراقبتها من طرف البرلمانيين؟ إذا كان عدد الحسابات الخصوصية للخزينة تراجع من 131 سنة 2004 إلى 75 سنة 2014، في إطار توجه يرمي إلى عقلنة ونجاعة تدبير هذه الحسابات، فإنه يبدو أن حكومة بنكيران لم تعد عازمة على الانخراط في هذا التوجه، بعدما قررت الاحتفاظ بمعظم الحسابات الخصوصية، بل وأصرت على إحداث حسابات خصوصية جديدة، مع استغلال نص القانون التنظيمي لقانون المالية، الذي تنص مادته 18 على أنه يجوز في حالة الاستعجال والضرورة الملحة أن تحدث خلال السنة المالية، بموجب مراسيم، حسابات خصوصية جديدة للخزينة. وستتيح هذه المادة الترخيص للحكومة بأن تحدث خلال سنة 2015 حسابات خصوصية للخزينة بموجب مراسيم، على أن تدرج هذه الأخيرة في قانون المالية للسنة الموالية، مع عرضها على البرلمان بقصد المصادقة تطبيقا لأحكام الدستور. حسابات جديدة تطرح علامات استفهام على عكس ما كان متوقعا، اتخذت حكومة بنكيران منحى معاكسا في التعامل مع الحسابات الخصوصية، أو الصناديق السوداء، حيث اقترح مشروع قانون المالية الجديد، تطبيقا لأحكام المادة 18 مكرر من قانون المالية، إحداث حسابين مرصودين لأمور خصوصية يسميان «صندوق محاربة الغش الجمركي» و»صندوق الأموال المتأتية من الإيداعات بالخزينة». وفي المقابل، ستشهد مجموعة من الحسابات الخصوصية بعض التغييرات، وعلى رأسها الحساب المسمى «صندوق النهوض بتشغيل الشباب»، حيث يهدف تغيير هذا الحساب إلى تمكينه من إدراج النفقات الناجمة عن تحمل الدولة للتكاليف المتعلقة بالإجراء الرامي إلى تحفيز التشغيل في بعض المقاولات والجمعيات وفقا لشروط خاصة. ورغبة في مواكبة تفعيل نظام المقايسة الجزئية لثمن المواد الطاقية، الذي دخل حيز التطبيق سنة 2013 ومن أجل ضمان استقرار الأثمنة المطبقة في قطاع النقل العمومي الحضري، سيخضع الحساب الخاص المسمى «صندوق مواكبة إصلاحات النقل الطرقي الحضري والرابط بين المدن» لتغيير يضمن تمكينه من تحمل النفقات المتعلقة بالتعويض عن الزيادة في أسعار المحروقات لفائدة الناقلين العموميين داخل المدار الحضري. كما سيتم دمج حسابين مرصودين لأمور خصوصية موجهين للاستثمارات، ويتعلق الأمر ب»صندوق إنعاش الاستثمارات» و»الصندوق الوطني لدعم الاستثمار» في حساب واحد يسمى «صندوق التنمية الصناعية والاستثمارات»، بالإضافة إلى دمج العمليات المتعلقة بإنجاز برامج ومشاريع مخطط تسريع التنمية الصناعية ضمن هذا الحساب. وسيخضع الحساب الخاص المسمى «الصندوق الوطني لدعم البحث العلمي والتنمية التكنولوجية» إلى تغيير يهدف إلى إتاحة إمكانية تحمل هذا الحساب للنفقات المتعلقة بمنح التفوق في البحث، التي يمنحها المركز الوطني للبحث العلمي والتقني. ويقترح مشروع قانون مالية 2015، كذلك، تغيير الحساب المسمى «صندوق تضامن مؤسسات التأمين»، وذلك قصد إتاحة إمكانية احتساب المبالغ المرجعة برسم المساعدات والإعانات المالية الممنوحة سابقا من طرف الدولة لفائدة بعض مؤسسات التأمين وإعادة التأمين. ومن المنتظر أن يخضع «الحساب الخاص بمنح دول مجلس التعاون الخليجي» إلى تغييرات ستمكنه من القيام بتحويلات لفائدة الميزانية العامة، من أجل تمويل برامج ومشاريع التنمية المدرجة في إطار الاستراتيجيات القطاعية. وفي إطار تعزيز أهداف «صندوق تحديث الإدارة العمومية»، يقترح مشروع قانون المالية للسنة المقبلة توسيع مجال تدخله لتمكينه من تمويل العمليات المتعلقة بتحديث المرافق العمومية، وتحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، وتكريس النزاهة ودعم الحكامة الجيدة. ويقترح مشروع قانون المالية، كذلك، تغيير الحساب المسمى «مشاركة القوات المسلحة الملكية في مأموريات السلام»، من أجل ضمان تمويل العمليات ذات الطابع الإنساني، التي تقوم بها القوات المسلحة الملكية، داخل المغرب وخارجه. بالإضافة إلى تغيير الحساب الخاص المسمى «صندوق دعم العمل الثقافي لفائدة المغاربة المقيمين بالخارج» بشكل يسمح لهذا الحساب بتحمل النفقات المتعلقة بدعم العمل الاجتماعي لفائدة الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وكذا النفقات المتعلقة بشؤون الهجرة. وعلى مستوى آخر، يقترح مشروع قانون مالية 2015 حذف الحساب الخاص المسمى «صندوق أجرة الخدمات المقدمة من قبل الوزارة المكلفة بالمالية برسم مصاريف رقابة ومراقبة مقاولات التأمين وإعادة التأمين»، بالإضافة إلى حذف الحساب الخاص المسمى «الصندوق الوطني لدعم الاستثمارات». وحسب ما ورد في تقرير الحسابات الخصوصية، فإن الحسابين المرصودين لأمور خصوصية تهم مجال التنمية المحلية، وهما «حصة الجماعات المحلية من حصيلة الضريبة على القيمة المضافة» و»الصندوق الخاص لحصيلة حصص الضرائب المرصودة للجهات»، يمثلان، إجمالا، ما يناهز 51 في المائة من مجموع النفقات المنجزة برسم سنة 2013 في إطار الحسابات المرصودة لأمور خصوصية. إجراءات باهتة لضمان الشفافية وفي محاولة من الحكومة لإضفاء شيء من الشفافية على تدبير الحسابات الخصوصية خلال السنة المقبلة، قال وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، إن مشروع القانون التنظيمي لقانون المالية يضمن ديمومة الحسابات الخصوصية مع تقييد مجال تدخلها وتعزيز تمويلها الذاتي، بالإضافة إلى تحسين مقروئيتها وشفافيتها، فعلى مستوى تقييد مجال تدخل الحسابات الخصوصية، أورد مشروع قانون مالية 2015 أنه لا يمكن للحسابات المرصودة لأمور خصوصية أن تغطي إلا النفقات المتعلقة بإنجاز برامج ومشاريع أو عمليات التنمية. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تدرج في الحساب الخصوصي النفقات الناتجة عن صرف المرتبات أو الأجور أو التعويضات إلى موظفي وأعوان الدولة والجماعات الترابية ومستخدمي المؤسسات والمقاولات العمومية. وفي السياق نفسه، لا يؤذن بدفع اعتمادات عبر الاقتطاع من حساب خاص لفائدة حساب آخر أو مرفق للدولة مسير بصورة مستقلة. أما على مستوى تعزيز التمويل الذاتي للحسابات الخصوصية، فقد أورد مشروع قانون المالية أنه من أجل ضمان عقلنة تسيير الحسابات الخصوصية للخزينة، يشترط، اثناء إحداث حساب خاص أن تشكل موارده الذاتية نسبة 40 في المائة على الأقل من موارده الإجمالية المأذون بها برسم قانون المالية. ومن جهة أخرى، سيتم تقليص عدد أصناف الحسابات الخصوصية للخزينة إلى 5، حيث ستدمج كل حسابات القروض وحسابات التسبقيات الحالية في صنف واحد يسمى «حسابات التمويل»، في أفق تدبير أمثل لوسائل التمويل، التي توفرها الدولة من موارد الخزينة على اختلاف طبيعتها. أما بخصوص تحسين المعلومة الموضوعة رهن إشارة اللجان البرلمانية، فأشار التقرير المرفق بمشروع قانون المالية والحسابات الخصوصية، إلى أن هذه الأخيرة، تحدث وتغير وتحذف بموجب قانون المالية، وتدرج نفقاتها طبقا للتبويب المعتمد على البرمجة في إطار القانون، ويتم تقديم المشاريع المبرمجة في هذه الحسابات للجان البرلمانية المعنية مرفقة بمشاريع ميزانيات القطاعات الوزارية أو المؤسسات التابعة لها. برلمانيون يحاربون طواحين الهواء يبدو أن الحكومة استطاعت التطبيع، فعلا، مع الصناديق السوداء، خاصة أن معركة الحسابات الخصوصية انتهت منذ شهور قليلة لصالح الأغلبية، بعدما فرضت الأخيرة شروطها على المؤسسة التشريعية، حيث لن تدرج بسهولة الحسابات الخصوصية ضمن جدولة مراقبة الميزانية العمومية، القاضية بفرض الرقابة البرلمانية عليها. فالتعديل، الذي اقترحه وزير الاقتصاد والمالية، والذي يقضي بأنه «يمكن أن تدرج بين مكونات ميزانية الدولة، الموارد والنفقات المتعلقة بتدبير الأموال العمومية التي تنتج عن بعض حسابات الخزينة، والتي يحددها قانون المالية وفق الشروط المنصوص عليها في نص تنظيمي»، وضع شرطا معجزا في وجه إدراج حسابات الصناديق السوداء ضمن حسابات الميزانية العمومية، يتمثل في وضعها وفق قانون تنظيمي، وهو ما جعل الوزير التجمعي ينفذ من جهة رغبات البرلمانيين في مراقبة الحسابات الخصوصية، ولكن بتعقيدات أكبر قد تجعل هذه الرقابة صعبة، بل ومستحيلة، تجعلهم كمن يحارب طواحين الهواء. وكان نواب الأغلبية قد اقترحوا، في تعديل أدخلوه على نص المادة 18 من مشروع القانون التنظيمي، أن تخضع كل الحسابات الخصوصية للإدراج في الميزانية العمومية، قبل أن يتم إبعاد حسابات الجيش والأمن، وهو ما تجاوزه تعديل وزارة الاقتصاد والمالية التي فرضت أن يتم الإدارج بنص تنظيمي. وكان عبد العزيز أفتاتي، النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية، صعد من لهجته تجاه طريقة تعامل الحكومة مع ملف هذه الصناديق، معتبرا أن مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي للمالية والمعايير الدولية تفرض إدراج هذه الصناديق في قانون المالية، بينما في المغرب يتم تهريبها خارج نطاق القانون وتتحكم فيها جهات غير معروفة. وقال أفتاتي إنه لا يعقل في زمن الحديث عن الشفافية والنزاهة والحكامة أن تستمر هذه الصناديق في أيدي جهات معينة تستفيد منها بعيدا عن الرقابة والمحاسبة القانونية. وأوضح أن لا أحد يعلم إلى الآن قيمة المبالغ المخصصة لهذه الصناديق، في وقت تعتبر البلاد في حاجة ماسة إلى كل درهم إضافي. وأضاف النائب البرلماني أن حزب العدالة والتنمية يدبر ما هو معروض عليه في إطار قانون المالية، بينما تظل الصناديق الخصوصية بعيدة عن تصرفه، مؤكدا أن الفرصة مازالت سانحة لإصلاح هذا الوضع غير السليم، من خلال التشبث بضرورة إدراج كل الصناديق الخاصة والسوداء في قانون المالية. كما دعا عبد العزيز أفتاتي، في تصريح سابق ل«المساء»، المستفيدين من الصناديق السوداء إلى إرجاع الأموال إلى خزينة الدولة، موضحا أن النقاش حول تعويضات الصناديق السوداء داخل البرلمان «يبدو غير ناجع»، وأنه يجب أن ينتقل إلى فضاءات أخرى، حيث دعا المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة والقضاء إلى التحقيق في هذه الصناديق وفي المبالغ التي تضمها وفي طرق تحصيل مداخيلها وطرق صرف تحملاتها ونفقاتها.