عادة ما لا نعطي للأشياء قيمتها ووزنها الحقيقين، ربما لعدم اكتراثنا بما يجري حولنا أو لعدم تواصلنا، فمن الضروري أن لا نتجاوز أحداثا بالغة الأهمية دون محاولة الوقوف عندها وفهمها وتفكيكها، خاصة إذا تعلق الأمر بأشكال فنية تجاوزت في بعدها كل الاحتمالات، لتصبح حالات نادرة في التعبير عما هو كوني، انطلاقا من ثقافة محلية متجذرة في الزمن والتاريخ بمكوناتهما الجمالية والفكرية، بما فيه الوعي الجماعي، وقد ارتأينا أن نستحضر الآن ملحمة «إيسلي تيسليت» كتجربة نموذجية جمعت بين الرقص والأسطورة والمسرح والموسيقى والتشكيل، في محاولة لمعالجة قضايا ثقافية كونية، استلهمت صورها ومصادرها من التراث المغربي والعربي، لترقى به إلى مستوى عالمي، متجاوزة كل الحواجز الممكنة خاصة اللغة منها، جاعلة من السينوغرافيا والإنارة والجسد... لغة للتواصل، معلنة رفضها لكل التقاليد الفنية المبتذلة. إن حضور هذه التجربة بثقلها الإبداعي والحداثي ضمن سياق التاريخ الفني العالمي، وأهميتها كمدخل لتأسيس حوار فعلي بين الشرق والغرب، جعلت منها بداية لوضع تصور إجمالي لكيفية معالجة القضايا الفكرية بشكل من الأشكال التعبيرية الفنية باختلاف تقنياتها واتجاهاتها. ولكي نستنتج ونجد قاسما مشتركا بين هذه الأجناس التعبيرية والربط بينها، تناولنا تجربة نوعية ترقى إلى مستوى عال من الجودة، تتمثل في هذه الملحمة الموقعة من طرف الفنان الكوريغرافي لحسن زينون، التي تعتبر من أهم المحطات الأساسية في المشهد الأدبي والفني بالمغرب، تاركة بصمة إبداعية حقيقية كمرجع مرئي وثقافي يدخل ضمن الأعمال المؤسسة لهذا النوع من الأشكال التعبيرية الحداثية كقيمة مضافة. إن المتتبع لمراحل هذه الملحمة لن يجد صعوبة في فهم محتوياتها الحكائية والسردية، حل فيها الجسد كتعبير محل النص، مخترقا بذلك حدود اللغة والمكان، مرورا بأهم العلاقات العاطفية والغرامية عبر التاريخ من كليوباترا، مرورا ببلقيس ووصولا إلى حكاية «إيسلي تيسليت»، كأسطورة بربرية تراجيدية بعنفها وقساوة نهايتها. إن المشاركة الجماعية لفعاليات إبداعية من مختلف المجالات جعلت من هذه التجربة منعطفا جديدا في توطيد العلاقات والاشتغال الجماعي المنسجم بتقنياته المتعددة والمتنوعة، لإنجاز عمل متكامل، تضمن مشاهد احتفالية، وأخرى مسرحية بما تحتويه من ديكور وإنارة وملابس وغيرها، بالإضافة إلى مقاطع موسيقية شرقية وغربية من مشهد لآخر متنقلة بين أحداث الحكاية. فالإنجاز الأولي ل»إيسلي تسليت» بما قد تطلبه من اختيار مضبوط لهذه الفعاليات بإضافتها للعناصر الأساسية والمحركة لهذا العمل كالراقص قيس زينون والراقصتين فيرجينيا لونك وأسيلينا أندري والمسرحية الراقصة ميشيل زينون، كان مجازفة إيجابية حققت تكاملا جسديا ومتعة بصرية اجتمع فيها الشعر، بحضور الشاعر المغربي مصطفى النيسابوري، والتشكيل، بمساهمة الفنان المغربي الراحل محمد نبيلي برموزه البربرية، وتصميم الأزياء بإبداع الفنان جون دوفويست، والسينوغرافيا بلمسات المهندس المعماري عز الدين الأزرق، والموسيقى بأنغام الملحن الكبير أحمد الصياد، والعازف المتميز سعيد الشرايبي، وصوت المطربة فرونسواز أطلان، بالإضافة إلى فرق فلكلورية لها صلة بموقع الحكاية. إذن كل هذه الجهود وكل هذه الأسماء الوازنة المساهمة في هذا العمل الضخم برهنت على تجديد منهجي في تعامل المخرج مع التراث بطرق حداثية احتل التشكيل فيها جزءا كبيرا إذا ما وقفنا عند بعض الأعمال التي أنجزها المرحوم الفنان نبيلي كجزء أساسي في التكوين الإجمالي لسينوغرافية الملحمة، وعند بعض الرسوم التهييئية الخاصة بالملابس وتحركات الراقصين فوق الخشبة التي تحيلنا مباشرة وبشكل متشابه على تخطيطات المخرج الياباني إيكيرا كوروزاوا في ملحمته السينمائية الشهيرة «ران Ran»، وعلى مشاهد ثابتة وغير متحولة في لوحات الفنان التشكيلي إدكار دوكا الخاصة براقصات الباليه. ورغم أهمية هذا الإنجاز الكبير وبعده الإبداعي والثقافي فإنه لم يجد عناية جدية وكافية من طرف المسؤولين في حينه، ربما لعدم فهم مشروع ضخم تجاوز في متطلباته الفكرية وإمكانياته التقنية الصورة الثابتة لكل الأعمال المبتذلة، إذ يقول الفنان لحسن زينون بعد مواجهات وصراعات ضد هذه العراقيل المفتعلة : «عندما جئت للمغرب وجدت جدارا يصعب اختراقه، وأصبت بانهيار عصبي ثلاث مرات متتالية، وقاومت إلى أن حققت هذه الأمنية بفضل بعض الأصدقاء الغيورين على الثقافة والفن».