المغاربة شعب مِهذار والدليل أننا نسمي الكلام «هدرة» والفِراش الدافئ الذي تحلو «الهدرة» فوقه «هيدورة». المغاربة شعب صاخب، يختلط لديه الكلام بالصراخ، والدليل أن المتحدث عندنا «كيدوي» من: دوَى يدوِي، ادْوِ، دوِيًّا، فهو داوٍ. ودَوَى الرَّعْدُ: دَوَّى، أَرْعَدَ، سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ مُجَلْجِلٌ (قاموس المعاني). المغاربة شعب ثرثار، والدليل أن الواحد منّا يُحدثك وعندما يأتي دورك في الحديث يستمع إليك لكنه لا يتوقف عن الكلام، لذلك نشتق فعل الإنصات من اللغو: «اتسلغى لو»، أي استمعَ إليه دون أن يتوقف عن اللّغوِ! حتى مع المكتوب نتعامل بمنطق المنطوق، الشفهي، لذلك أصبح من العادي والمألوف أن تصادف في المقهى من يستعير منك الجريدة وعندما تسلمه إياها يلقي نظرة خاطفة على أحد العناوين ويلتفت إليك: «آش قالو أخويا فهاذ لخبار؟». زحفُ الشفهي على المكتوب نراه يوميا على شكل حِكَم أو أحكام ثرثارة فوق هياكل الشاحنات والناقلات: «عين الحسود فيها عود»، «عضة أسد ولا نظرة حسد»... أو على مجموعة حافلات اختار لها صاحبها اسم «أسفار العهد الجديد» دون أن يعرف أن هذه العبارة التي ارتطمت بأذنه فاستهوته، تعني أسفار الإنجيل وليس أسفار حافلاته. وعلى متن نفس الحافلة، قد تصادف مشعوذا يبيع مرهما يسكن آلام الأسنان ويداوي «الحزاز» و»بو حمرون» والروماتيزم... يستشهد بالآية القرآنية: «وما يهلكنا إلا الدهر» وهو يقصد آلام الظهر ! يذهب عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه «ثقافة الأذن وثقافة العين»، إلى أن «اللغة العربية ليست وحدها التي تقرن العين بالتفكير والأذن بالأخلاق فنقول: «صوت الضمير» و»عين العقل». يقال إن «اللغات الإغريقية واللاتينية والجرمانية كلها تربط الصوت بالضمير والسمع بالطاعة والأذن بالرضوخ».. فهل يخفى على هذا المفكر المتميز أن مكتوبات المغاربة غارقة في الشفهي، أي مليئة باليقيني والأخلاقي والمطلق الكامل المغلق... لأننا عندما انتقلنا إلى المكتوب لم نبرح منطق الشفهي، لذلك برز لدينا الخطباء الذين يثيرون الحماس والهتاف والتصفيق أكثر من الكُتاب الذين يخاطبون العقل والخيال. يحدث، على هامش نقاش حول الشعر، أن تقول لأحدهم: الشاعر الفلاني لا يكتب نصوصا جيدة، فيجيبك باطمئنان جاهل: لكن له قراءة جميلة وصوتا رخيما ! لعل هذا ما شجّع الكاتب السعودي الراحل، عبد الله القصيمي، على تأليف كتابه القاسي، والمثير للجدل: «العرب ظاهرة صوتية». لقد كتب القصيمي، من جملة ما كتبه في مؤلفه ذاك: «إن العرب ليظلون يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبق شيء عظيم أو جيد لم يفعلوه لكي يفعلوه.. إن من آصل وأرسخ وأشهر مواهبهم أن يعتقدوا أنهم قد فعلوا الشيء لأنهم قد تحدثوا عنه». ومادمنا شعبا «يهدر» و»يدوي» أضعاف ما يتكلم ويكتب.. فمن باب تحصيل الحاصل أن نلقي الكلمات على عواهنها والمفاهيم في غير محلها، دون أن نعير أدنى اهتمام لكون الكلمة مسؤولية كبيرة. لننصت لهذه المقولة العظيمة للفيلسوف الصيني، كونفوشيوس: «لو كنت أمتلك قوة خارقة لوظفتها في وضع كل كلمة في مكانها». لنأخذ مثالا عبارة «الطائفة اليهودية» ونرى كيف أننا، مثقفين ومفكرين وسياسين وصحافيين ومسؤولين في الدولة..، نساوي بين اليهود المغاربة، وهم مكون أساسي من مكونات شخصيتنا الوطنية، وبين عيساوة أو حمادشة، فنقول الطائفة اليهودية والطائفة الحمدوشية. أما أغلب انشقاقاتنا السياسية والفكرية، فلم تكن الأفكار، يوما، هي المحدد فيها، بل عدم الإنصات وانسداد قنوات التواصل، لأننا شعب «يستلغي» ويندفع أكثر مما يستمع.