لا يمكن للفكر أن يكون أسِيرَ نَسَقٍ، أو تفكيراً نسقياً، فقط، باعتبار ما تقتضيه طبيعته التي فَرَضَتْ على الفلاسفة، بشكل خاص، أن يكونوا صارِمين في ما يَجْتَرِحُونَه من مفاهيم، وفي مقاربتهم لِما كانوا يخوضونه من أفكار، ومن أسئلة، أو إشكالاتٍ كُبرى. فحين نقرأ ما وَصَلَنا عن سقراط، عبر أفلاطون، وفق رواية أفلاطون، وعباراته، التي لا نعرف مدى دِقَّة الأمانة في نقلها كما سمعها، أو أخذها عن سقراط نفسه، فنحن نكونُ أمام فكر، في جوهره، هو نوع من التفكير خارج النَّسَق، رغم أنَّ سقراط كان، وهو يتكلَّم، يبني حواره مع الآخرين، على نتيجة، هي في ذهنه، بشكل مسبق، ولو بصورة غامضة، أو فيها بعض الالتباس. لكنها فكرة تقبل التَّغْيِير، أو إعادة بنائها، وفق ما قد يُفاجِئ سقراط من أمور، لم يكن يتوقَّعُها، أو لم يحسب لها حساب. ما يعني أنَّ نسقية الفكر السُّقْراطِي لم تكن بهذا المعنى الذي سيصبح أحد شروط الفكر الفلسفي في ما بعد. ولعلَّ من سبقوا سقراط، من الفلاسفة، كانوا أقرب إلى هذا المعنى، أكثر من سقراط نفسه. حين نقرأ نيتشه، مثلاً، نكون أمام فكر، في ما هو في قلب الفكر الفلسفي، فهو يسعى إلى اقتحامه من داخله، أو النظر إليه من خارجه. وأهم ما ميَّز هذا النوع من التفكير هو تَمَرُّدُه على نسقية الفكر الفلسفي من جهة، ونقده لهذا الفكر، من خلال نقد بعض المفاهيم الكبرى والأساسية التي كانت عند الكثيرين من المُسَلَّمات، التي لا يَتِمُّ تفكيرُها، أو إعادة اختبارها، والنظر في صلاحيتها. وهذا ما سيكون الطريق الذي اختار إميل سيوران أن يسير فيه، وكانت كتاباته الشَّذرية، أو المقطعية، بشكل خاص، نوعاً من الاعتراف بأهمية الفكر، وقُدْرَتِه على المواجهة والنقد، وعلى التفكيك واجتراح الأسئلة الجوهرية، دون أن يكون التحليل الخالص هو أداة هذه المواجهة والنقد. فسيوران، بدوره، ثار على الفلسفة من داخلها، فبقدر ما ابْتَعَد عنها، ونظر إليها من أعلى، بقي قريباً منها، أو حاول أن ينظر إليها، بالأحرى، من أسفل الهاوية. هذا الكاتِب الروماني، الذي اختار أن يبقى بعيداً عن الإعلام، وعن العلاقات العامَّة، أو اللقاء المباشر بالجمهور، هو نفسُه الذي نَذَر وقْتَه وحياتَه لما يكتبُه، ويُفكِّر فيه. فهو لم ينجز أطروحتَه التي «غالَط» والِدَيْه، في «تظاهره» بإعدادها، كما سيُصَرِّح بذلك في أحد أعماله، ربما، لأنَّه، منذ البداية، اسْتَشْعَر الحاجَة إلى أن يكتب وفق ما بدا له أنَّه الطريق، أو الصيغة التي قد تقود الفكر لِحَتْفِه، دون زوائد وإضافات، أو بنوع من الكتابة التي تُواري وتُخْفِي موضوعها، بالقدر نفسه الذي تحرص على فَضْحِه، ووضعِه في «نسق» تعبيري، هو مزيج من التورية والمجاز، أو الوَمْض الشِّعريّ الخَاطِف، الذي يُشْبِه البرقَ الذي تَبْقى لُمَعُه مُشِعَّةً في البصر، حاضرةً فيه، أو حارِقَةً، رغم انْطِفائِها، في حينها. هذا النوع من الكتابة الشَّذْرِيَة، العميقة، والآسرة، والغامضة، أيضاً، لم تُتِح، لكتابات سيوران ولأعماله أن تجد قارئها بسهولة، أو هي، بالأحرى، كانت تعمل على تربية قارئها، وتأْهِيلِه لهذا النوع من الكتابة التي كان نيتشه فتح جُرْحَها في أعماق الفكر الفلسفي الحديث، وأتاح للفكر أن يتحرَّر من تلك النَّسَقِيَة الصَّارمة التي بَدَتْ لسيوران غير قابلة لقول ما يُفَكِّر فيه، أو ما يراه. ومن منطلق هذه الرؤية ذاتها، كان يعتبر هذا النوع من الكتابة الشّذرية، الصَّاعقة، والصَّادِمَة، هي تعبير عن «وساوس»ه، لأنَّه لم يكن يعتبر ما يصدر عنه أفكاراً، بل وساوس. وهذا، في ظَنِّي، تعبير عميق عن العلاقة بين الفكرة، وطريقة التعبير عنها عند سيوران. فالشَّذْرَة، أو الوَمْضَة، هي تعبيرُ فكرةٍ في وضع ارْتِعاشٍ واحْتِقانٍ، وهي لا تنزع، أو لا ترغب في النزوع لليقين. لا يقين في الوساوس، ولا يقين في هذه الومضات الصَّاعِقَة، لأنها حالمَا تظهر تختفي، وقتُ ظهورها، هو وقتُ اختفائها، لا مسافَةَ بين الاثنيْن. كان سيوران، في ما يكتبه، وبالطريقة التي يكتب بها، يتفادى تلك «العواقب الوخيمة» التي عادتْ على غيره من الكُتَّاب، ممن لهم جمهور واسع، بما لا يمكن أن يكون في صالح الكاتب، لأنَّ امتلاك جمهور، هو «مأساة»، في نظر سيوران. فكُتُبُه لم تَكُن تُوَزَّع بشكل واسع، وكانت لا تَصِل إلاَّ إلى القليلين ممن أدْرَكُوا أهمية، وخُطورة ما يقوله سيوران، الذي انْقَلَب على الفلسفة، وعلى طريقتها في النظر للأشياء. وهذا ما يُسَمِّيه بعض الذين كتبوا عن سيوران بالكتابة الحُرَّة التي لا تحتكم إلاَّ إلى التَّمَشِي الذَّاتيّ. لم يكتب سيوران ليكون مشهوراً، له جمهور، أو مثقفاً نَجْماً، يظهر في كل مكان، رغم أنَّه تخلَّى، في لحظة حاسِمَة، عن الكتابة بِلُغَتِه الأصلية، واخْتارَ أن يكتب بغير لسانه، أي باللغة الفرنسية، بل كتب ليتخلَّص من وساوسه، وليقول الأشياء التي رآها، أو بَلْبَلَتْ عقله وخيالَه، وقطعَتْ عنه نومَه، بطريقة، لم يتمكن الفكر النسقي أن يخوض فيها، ربما بنفس الوضوح الذي خاض به فيها نيتشه وسيوران، وقبلهما، طبعاً، سقراط، ومن كانوا قبلَه من الفلاسفة. عِلماً أنَّ سيوران كان يُعاني من مرض الأرَق، الذي لا زَمَه إلى حين وفاته. الوضوح، هنا، وفي هذا السياق الذي نتحدث عنه، هو ظهور في إخفاء، لكن خارج أعراف الفكر، وأنساقه الصَّارمة. كتابة كثيفةٌ، تمتح من الشِّعر مجازاته، وتعبيراته الخاطِفَة، التي تبني جُمَلَها وصُورَها باقتضابٍ باهر، ومُخيفٍ، في الوقت نفسه. فكتابة سيوران هي تفكير بالشِّعر، وشِعْر يتسلَّى بالفكر، أو يتملَّى الفكر، بلغةٍ، يتقاطع فيها «النثر»، مع الشِّعر، دون أن يُقْصِي أحدهما الآخر، لأنَّ «الفكرة» أو «المعنى» لا يصلان، أو لا يمكن حَدْسُهُما إلاّ بهذا العِناق العاشق بينهما، رغم أنَّ سيوران ظل يعتبر أنَّ اللغةَ هَزَمَتْه.