ضافر الأسبوع الماضي خمسة مكتبيين في باريس نقودهم فاشتروا حمارا، من أصل مغربي، أطلقوا عليه اسم بابل، كناية على برج بابل الشهير والذي أراده حفدة نوح مرآة لبشرية موحدة تنطق بلغة واحدة قبل أن يفرق شملهم الخالق ويخلق لغات عديدة، وعليه بقي البرج غير مكتمل. ابتداء من الخامس والعشرين من هذا الشهر وبمناسبة اليوم العالمي للكتاب، ينطلق الحمار (وهنا لا داعي للاحتماء بكلمة حاشاكم)، محملا بالكتب، للقيام بجولة على المكتبات الخمس المتناثرة في باريس العاصمة، قبل أن «يهز القلاع» في الرابع والعشرين من مايو من مدينة سان-مالو بشمال فرنسا إلى باماكو، عاصمة مالي. من المتوقع أن يشكل المغرب إحدى محطات تجواله. الحصيل سيوضع «شواري» على ظهر بابل قبل أن يملأ بكتب ومؤلفات ناطقة باللغة الفرنسية تغطي كل الميادين وتهم كل الأعمار. وقد عهدت إلى مارك روجيه وهو قارئ عمومي شهير، (رديف لحلايقي عندنا)، مهمة سياقة الحمار والاعتناء به خلال الرحلة (عام بالتمام والكمال)، التي يستغرقها مشوارهما المشترك والذي سيعبران خلاله مسافة تقدر ب 5000 كلم. للعملية بعد ثقافي، لكن بعدها الدعائي للغة والثقافة الفرنسيتين لا يقل أهمية. فعلى الرغم من استقلاليتهما فإن بادرة المكتبيين الخمسة تخدم استراتيجية الهجوم الجديدة لوزارة الخارجية والثقافة الفرنسيتين لاسترجاع المكانة المسلوبة للغة الفرنسية، من طرف الإنجليزية، في الدول الإفريقية والعربية الناطقة بالفرنسية. ويبدو أن هذه الاستراتيجية قد آتت أكلها وتجد ترجمتها في آخر إحصائيات مبيعات الكتاب الفرنسي في بلدان المغرب العربي، وبخاصة المغرب، الجزائر، تونس، لسنة 2008، التي عرفت فيها هذه المبيعات وثبة بنسبة 4, 13 في المائة. ويحتل المغرب المرتبة الثامنة في السوق العالمية لمبيعات الكتب الفرنسية بنسبة 17,3 في المائة، يجيء بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويتقدم الجزائر، تونس، ولبنان. لنعد إلى الحمار بابل. المزاوجة هنا بين الحمار ونشر العلم من خلال قص الحكايات وجذب الحكواتي للناس إلى حلقات ذكره فكرة نبيهة تكتسي رمزية كثيفة. لكن، ألم ينهل المكتبيون الفرنسيون من تقليد مغربي اندثر بالمرة وذلك بفعل الهجمة الاستهلاكية الهوجاء، ألا وهو تقليد العطار الذي كان يجوب رفقة حماره الأمين: الدوار، الدشرة، القرية النائية لبيع الحركوس، راس الحانوت، الغاسول، قعقلة وبسيبسة ولسان الطير، دون الحديث عن لعكر، والصابون البلدي إلخ...؟ كان العطار يمرر وينقل ثقافة شعبية مشتركة، قوامها النظافة، الاستشفاء، إيصال ونشر الأخبار. بالقرب منا كان حمار جامع لفنا «تايموت في الخط» عندما يأمره لحلايقي بقطع النفس ومسرحة موته أمام جمهور «تايخ...» بالضحك! اليوم، قتل «النيتاندو» والألعاب الإلكترونية الحمار ومول الحمار. كما أن فكرة بابل تذكرنا بإعادة استخراج رفات ابن رشد من قبره بمراكش قبل وضعه في جهة من «الشواري» على ظهر دابة، فيما وضعت في الجهة أو العين الأخرى كتبه قبل أن يدفع بالدابة في اتجاه قرطبة ليعاد دفنه مرة أخرى بمدينته الأصل. لماذا لم يستلهم بعض المكتبيين والناشرين المغاربة، وخاصة الوزارة المعنية بالشأن الثقافي، هذه الفكرة لتجنيد الحمير (عطى الله الخير)، لحمل اللغات، المعارف والآداب المغربية ليس فحسب إلى المدن، بل إلى المناطق الجبلية، البوادي والدشرات لمؤانسة الأطفال مع نصوص المبدعين والشعراء المغاربة؟ في الواقع حج وحاجة. وإلا بقينا في موقع من يصدر الحمير لترجع إلينا عابرة سبيل رفقة براح «يلغي بلغاه» بلغة واحدة: اللغة الفرنسية!