عرفت بلادنا منعطفا تاريخيا بخروج الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة بعد تجربة تسيير عمرت أكثر من عقد من الزمن توجت بدستور 2011، تنظيم انتخابات 25 نونبر التي أفرزت فوز حزب العدالة والتنمية وتعيين السيد عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة؛ هذه المتغيرات كان مأمولا من خلالها فهم مغزى وتحضير قيادات شبابية وربطها بالجماهير في مختلف القطاعات من أجل تقوية المؤسسات، غير أن القيادات الحالية عوض فهم المغزى اتجهت إلى مُجاراة قوى المحافظة في نمط التصور والتفكير، عوض بلورة البديل الحداثي كحاجة وطنية ملحة تحصن المكتسبات الدستورية، تدخلنا إلى زمن للوضوح السياسي ينطلق من تكتل للقوى الحداثية من شأنه أن يخلق وثبة سياسية من أجل الديمقراطية والحريات تلبي طموحات الشباب المغربي في حياة حرة كريمة وفي بناء دولة المؤسسات وفي حياة اقتصادية واجتماعية أفضل، تدخلنا زمن المواطنة التي تترجم روح الدستور وتخلق طاقة اندماج وشحنة وجود، تعبر عن انصهار اجتماعي وتعددية ثقافية وثقة وإجماع، تتحول فيها الذات الفردية إلى ذات جماعية تأخذ في اعتبارها أهداف الآخرين ومصالحهم في حياة اجتماعية تعيش فيها الأنا مع الآخر من أجل هدف عام هو تكريس مغرب حداثي متضامن، قوته في روح الجماعة وتماسكها وهويتها وصالحها العام. كاتحاد اشتراكي، اخترنا المعارضة عن وعي وقناعة، لاستكمال دورنا التاريخي من أجل التشخيص العلمي للمشاكل الفعلية، واستثمار خبرتنا في التدبير الحكومي طوال عشرية التحديث، لكي نكون حاضنة للتغيير وحاضنة لقوى التقدم والحداثة. هذا المبتغي يحتم علينا الخروج من المنطق الإيديولوجي الضيق وإعطاء أجوبة عن الأسئلة التي تفرضها المرحلة التي يعرف فيها المجتمع المغربي تحولات سوسيولوجية، جيل مطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ورفض العقلية الأبوية التي تتناقض مع قيم الحداثة والتي تشكل عائقا مخيفا أمام التقدم في اتجاه معالجة المشاكل الحقيقية. فانخراط البعض في مغازلة المشروع البنكيراني خوفا على المصالح التي راكموها خلال العشرية الأخيرة، أدخل بعض الإخوة في تناقض فكري وورطة حقيقية، واتضح بجلاء عدم الحسم الهوياتي والتعاطي مع الراهن بصبغة ماضوية، متناسين أن المستقبل لا ينتظر إلا ما هو حداثي ومستقبلي متطلع إلى الأمام، بينما مشروع بنكيران مشروع ماضوي، يناقض الحداثة ويناقض التاريخ ومنطق التطور، ويقف على طرفي نقيض مع التحولات التي يعرفها العالم. وهو ما بات يتضح للعيان في عجز بنكيران وصحبه عن توليد قدرة داخلية لبناء نظام إنتاج يستطيع أن يقوم على التوزيع العادل للثروة، وانشغالهم بتصريف مكبوتاتهم الإيديولوجية عوض تأسيس نظم للإدارة تقوم على الكفاءة والرشد، عبر السعي المتواصل للهيمنة على مفاصل الدولة، الأمر الذي جعل السياسة الحكومية قاصرة عن توليد قوة لضبط حركة الإنتاج والتوزيع العادل للثروة والحفاظ على التوازن بين الفئات ومنع الاحتكار والفساد والاستغلال. وهذا الوضع يقتضي من الإخوة الوقوف مع الذات أولا، ومع المشروع الاتحادي الذي يجب أن نواصله ونعترف جميعا بكون تحالفات الماضي استنفدت غايتها بدسترة الخيار الديمقراطي الذي شكل جوهر تحالف الكتلة الوطنية. وهذا الخيار هو في حاجة إلى التحصين عبر خلق كتلة حداثية تنقلنا من التعددية الحزبية إلى تعددية سياسية أساسها الوضوح، الذي يعمل حزب بنكيران على مقاومته ليغطي على عقمه التدبيري الذي انكشف نتيجة تصرفات الحزب الأغلبي في تأويل المكتسبات الدستورية وانتظارات الشعب المغربي للعدالة الاجتماعية وتمكينه من الخدمات الاجتماعية، وبشكل خاص التعليم والرعاية الصحية، والتي بات بنكيران بفعل سياسته اللاشعبية يضربها عن طريق مسلسلات الزيادات في المواد الاستهلاكية وتراجع ترتيب المغرب في المجال الحقوقي في عهده إلى مراتب دنيا، ناهيك عن نهجه سياسة "عفا الله عما سلف"، الشيء الذي ولد إحباطا لدى الجماهير الشعبية. ولعل هذه السياسة الفاقدة للبوصلة تهدد الوطن بالدخول إلى الأسوإ، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين المغاربة من ذوي الدخل المحدود، وفقدان الآليات الإبداعية لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي جاءت نتيجة عوامل ومشاكل متشابكة ومعقدة تقتضي إبداع حلول شجاعة وسياسة مفتقدة لدى الحكومة الحالية التي لم تستطع استعادة الأموال المهربة، وجعلت كل انشغالها منصبا على خوض حروب وهمية، الغاية منها التغطية على سياسات لاشعبية، تحاول تغطيتها عبر لعبة تبادل الأدوار بين الحزب والجماعة التي تعمل على تنمية ميل أعضائها الاستعلائي عن المجتمع وتحويله نحو الانشطار عبر تقوية الأنا في مواجهة الآخر المخالف، مما ولد لدى ''صقورها'' تصلبا كآلية دفاعية للتغطية على الضعف الذي يشعرون به، وتراجعا ديمقراطيا جراء التأويل التعسفي للدستور الذي يفرغ المكتسبات الدستورية ويضرب المؤسسات ويسير في اتجاه الفهم الأحادي. وفي ظل هذا التشخيص لواقع الحال يطرح سؤال: ما الحل؟ الحل يبدأ باستراتيجية واضحة غايتها المرور من ديمقراطية الدولة إلى ديمقراطية المجتمع عبر توفير بنية تحتية للخيار الديمقراطي أساسها الوضوح القيمي، بعيدا عن هوس الأنا الذي يولد أوهاما ذاتية، فمعركة الغد هي معركة فكرية بامتياز، وتجربة حكومة بنكيران تبين، بما لا يدع مجالا للشك، أن القوى المحافظة تحدوها رغبة جارفة في الهيمنة وإبقاء المجتمع في ظلال الماضي.. وعلينا مواجهتها ليس بمجاراتها في المسخ السياسي، بل بصياغة بديل حداثي، نعيد من خلاله توجيه الرؤية في الاتجاه الحقيقي لبوصلة الوطن.. وفي التقدم والتنمية والحداثة بتكريس البديل الحداثي الذي يخلق ثورة ثقافية تؤسس لمغرب الجميع، ثورة تنبني على مفكرين.. وعلى حكمة قادة محنكين.... فالثورات تبنى على العلم والفكر ولا تبنى على الجهل.. تبنى على دفع البلاد إلى الأمام لا إعادتها قرونا إلى الوراء.. تبنى على تعميم النور على المجتمع لا على قطع الكهرباء عن الناس.. وتنبني الثورة الثقافية بأيدي أولاد الشعب لا باستيرادها من الخارج لكي يمارس الوصاية على الشعب.. هي ثورة من أجل مصالح الشعب وليست ضدها. اعتبارا لكل هذا، فالحركة الاتحادية مدعوة إلى أن تعلب دورها الطلائعي للدفاع عن المكتسبات، لكون التاريخ لا يحتفظ سوى بالأفكار التي تخلق أشياء، مما يجعلها العمود الفقري الذي يقود الحركة الحداثية، وطرح بديل حداثي يتلائم مع التعاقد الدستوري الذي حسم في اختيارات المملكة المغربية بشكل لا يمكن التراجع عنه، لهذا نحن مدعوون اليوم إلى فهم مغزى المرحلة والدعوة إلى تشكيل كتلة حداثية، غايتها مد جسور التواصل مع الجيل الجديد المطالب بالحرية والكرامة والعدالة، ونبذ التمييز، وتكريس تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، على اختلاف أطيافهم وأصولهم الاجتماعية، في ظل مؤسسات قوية تحرص على احترام كرامة المواطن وتؤمِّن له حريته وحقه في الاختلاف؛ لهذا ينبغي علينا التحلي بالوعي الجماعي والتخلص من إغراءات اللحظة التي تجعل البعض يسلك سلوكا انتهازيا بالارتماء في أحضان قوى المحافظة عوض بناء المستقبل، خاصة وأننا ندرك أن الوطن يمر بمنعطف تاريخي نتيجة اختلال موازين القوى لصالح قوى شعبوية تعمل على تسطيح المجتمع عبر توظيف الهوية، الأمر الذي يفرض علينا التحلي بالجرأة والوضوح الإيديولوجي لأنه لا ديمقراطية بدون حداثة ولا حداثة بدون حداثيين. الفعل السياسي يحتم تعاقد كل الحداثيين على برنامج تغييري واضح يجعل التحالف مع المحافظة خطا أحمر، وهذا الأمر يتطلب التجند الجماعي عبر مد جسور التواصل بين القوى الحداثية وجميع شرائح الشعب المغربي، ووضع متطرفي الحداثة أمام مسؤوليتهم التاريخية، في زمن الردة الديمقراطية وما يقتضيه من إثبات القوى الحداثية لجدارتها. * عضو اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي وعضو المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية