بعد حظرها لسنوات من ممارسة أي نشاط سياسي، أصبحت جماعة العدل والإحسان أمام مفترق الطرق. فبعد رحيل زعيم ومؤسس الجماعة الشيخ عبد السلام ياسين، الذي كان يعد معارضا شرسا للنظام السياسي القائم، والتطورات التي شهدها المشهد السياسي بالمغرب، والتحولات السياسية بالمحيط الإقليمي، تبقى جل التساؤلات المطروحة تتمحور حول مستقبل التنظيم، سيما أن ذلك قد تكون له نتائج مهمة بالنسبة لاستقرار المملكة وأمنها. فهل ستتصالح جماعة العدل والإحسان مع المؤسسة الملكية وتمارس بعد ذلك دورا أكثر أهمية في الحياة السياسية المغربية، أم أنها ستعاني من الصراعات الداخلية بين الأجنحة وتدخل في مرحلة سياسية غامضة؟ هل ستتصالح جماعة الشيخ ياسين مع السلطة، أم ستستمر في تنفيذ التزامها بعدم الانخراط في الحياة السياسية، أم ستسعى بدل ذلك إلى ربط شراكات مع جماعات سياسية أخرى مهمشة لا تشاطرها الرؤى نفسها والمبادئ والتوجهات نفسها؟ هذه السيناريوهات تحديدا هي التي سعى إلى توضيحها تقرير صدر هذا الشهر عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يحمل عنوان «العدل والإحسان: في أعماق التحدي الذي يتخذه إسلاميو المغرب على عاتقهم». ويقدم التقرير المطول تقييما شاملا لأهم التحولات التي عرفتها جماعة الشيخ ياسين، وذلك بعد مرور عامين على وفاته. غير أن النقطة الأهم في التقرير الأمريكي هي تطرقه إلى أهم السيناريوهات التي يمكن أن تتطور من خلالها الأجنحة السياسية والدينية والروحية للجماعة، وكذا المنحى الذي ستتخذه علاقات جماعة العدل والإحسان ب «المخزن»، أو الدولة العميقة على حد وصف التقرير، في إشارة إلى القصر، والمحيط الملكي، والمؤسسة العسكرية، والأجهزة الأمنية. تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بدأ بالإشارة إلى تاريخ نشأة جماعة العدل والإحسان، ومختلف التجاذبات التي عرفتها الحركة في علاقتها بالسلطة، وأبرز في هذا الصدد أن حركة الشيخ ياسين لا تشبه الكثير من الحركات الدينية بالعالمين العربي والإسلامي. «بالرغم من كون حركة العدل والإحسان تتبنى مواقف مناهضة للغرب، وتعارض اعتناق مذهب المادية، وتشجب العولمة، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الجماعات الإسلامية المعروفة، فإن الحركة ترفض التيارات الصوفية والتوجهات القومية التي أوصلت حزب النهضة بتونس، وجماعة الإخوان المسلمين بمصر إلى السلطة»، كما ورد في التقرير، الذي أوضح أن مؤسس الحركة، الشيخ عبد السلام ياسين «أسس حركة تشبعت بالتصوف الديني الذي يهيمن على الثقافة المغربية، وقام بالربط بين العمل السياسي والاجتماعي والجانب الروحاني الشخصي». وبعد تحليل الوضع السياسي بالمغرب، تطرق الفصل الثالث من التقرير الأمريكي بشكل مفصل للعلاقة بين الحركة وما وصفه ب «المخزن»، معتبرا أن طبيعة هذه العلاقة لن تخرج عن الإطار نفسه الذي اتبعته السلطة في علاقتها بالأحزاب السياسية المغربية، سيما بعد قيام السلطة بتطويع أحزاب المعارضة بعد حصول المغرب على الاستقلال، خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب الاستقلال، وأخيرا حزب العدالة والتنمية. ورسم التقرير ثلاثة سيناريوهات يمكن أن يعرفها مستقبل جماعة العدل والإحسان، والمتمثلة في: تصالح الحركة مع السلطة، وبالتالي الحصول على ثقة القصر، أو استمرار العدل والإحسان في الالتزام بعدم المشاركة في الحياة السياسية، أو قيام الحركة بربط شراكات مع جماعات سياسية أخرى مهمشة. هل سيكرر التاريخ نفسه مع العدل والإحسان؟ لدى تطرق التقرير الأمريكي للسيناريو الأول المتعلق بتصالح حركة العدل والإحسان مع الدولة، والحصول على الثقة، سلطت صاحبة التقرير، الباحثة الأمريكية ڤيش سكثيفيل، الضوء على البنية الداخلية للجماعة، وأوضحت في هذا الصدد أن ما يعرف في أدبيات الجماعة ب «الدائرة السياسية»، التي يتزعمها عبد الواحد متوكل وبشكل متواري نائب الأمين العام فتح الله أرسلان، تبدو منخرطة في العمل على الحصول على استقلالها الذاتي من «الدائرة الدينية»، على شاكلة الفراق الذي تم بين حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح. «ورغم ما قد يظهر على أنه غياب للأسس الديمقراطية الداخلية، فإن حركة العدل والإحسان تملك بين أيديها الوساطة الاستراتيجية والوسائل التنظيمية التي قد تجعلها قادرة على الاشتغال مع أجنحة دينية وسياسية مختلفة عنها كليا. بيد أن قيام أرسلان باختيار منصب نائب الأمين العام، يمكن اعتباره أمرا يخفي وراءه بعض النوايا السياسية»، يقول نص التقرير، الذي أورد كذلك أنه في ظل ما وقع «أخيرا، يبدو أن جهات بداخل الدائرة السياسية تتبنى موقفا مغايرا بعدما أبدت استعدادها لتبني واستغلال بعض المبادئ التي يقوم عليها العمل السياسي، بما في ذلك تنظيم الحملات الانتخابية، وتبني المواقف الشعبوية، والتفاوض مع المخزن، مع الحرص في الآن ذاته على ترك المجال مفتوحا أمام الدائرة الدينية للاستمرار في التبليغ برسالة الشيخ ياسين المتمثلة في الدعوة والتربية بشكل يصبو في المقام الأخير إلى أسلمة المسار الديمقراطي بالمغرب». التقرير ذاته توقف عند تصريحات سابقة لفتح الله أرسلان بخصوص الحرص على «تحقيق توافق جامع يغطي جميع محاور اشتغال الدولة لتمريض المرحلة الانتقالية والعبور إلى مرحلة الاستقرار المجتمعي والسياسي»، وحسب أرسلان فإن الفصل بين ثنائية الدعوة والدولة يمكن أن تكون عواقبه وخيمة. «بيد أن مواقف أرسلان المعارضة للمشاركة السياسية تشير في الغالب إلى النقاشات التي تسبق التوصل إلى اتفاق بدل المعارضة السياسية الراسخة»، يتنبأ التقرير، الذي تطرق كذلك لتصريح سابق لأرسلان قال فيه إن «الدولة لا تعتبر قضية تأسيس الأحزاب حقا لكل المواطنين»، موضحا أن لجماعة العدل والإحسان «تصور ورؤية ومنهاج عمل، ولا نريد أن ندخل تحت قبة أي طرف من الأطراف». وتحدث التقرير عن وجود اختلافات جوهرية بخصوص الرؤية السياسية لدى قيادي جماعة العدل والإحسان. «إذا كان أرسلان يستعمل لغة قريبة إلى مبادئ الديمقراطية الغربية، فإن رئيس الدائرة السياسية، محمد عبادي يتبنى موقفا مخالفا لذلك، بتأكيده أن نظام الحكم في الإسلام مبني على مبدأ الشورى وليس الملكية. هذا الاختلاف الكبير في التفكير عن زعيم الذراع السياسي قد يمكن اعتباره تجسيدا لقطيعة فلسفية حقيقة أو لاستراتيجية متعمدة لبناء توافقات، سيرا على نموذج حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح». كما خلص التقرير إلى كون قياديي حركة العدل والإحسان على وعي تام بأن مشاركتهم في العمل السياسي وتحول الحركة إلى حزب قد يفضي إلى سحب بساط المصداقية من تحت أقدامها، وذلك بالنظر لعدم ثقة المغاربة في عمل الأحزاب السياسية. «مثل هذا الموقف طبع رفض الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية في الماضي طلب الحصول على وضعية الحزب، بالرغم من كون العدل والإحسان قامت بخطوات باءت بالفشل في محاولاتها الحصول على الترخيص بتأسيس حزب سياسي في السنوات الأولى لبدايتها»، حسب ما ورد في نص التقرير، الذي أوضح أن «الغيرة من البيجيدي» التي يبديها بعض أعضاء الدائرة السياسية للعدل والإحسان قد تساعد على ظهور مساعي لتحول الحركة إلى حزب سياسي. غير أن التقرير ذاته خلص إلى كون هذا السيناريو يظل بعيد المنال، رغم وجود توجهات داخل حركة العدل والإحسان للانخراط في الحياة السياسية، وربط ذلك باستمرار وجود عدة عراقيل داخلية وخارجية تحول دون تحقق ذلك. وخلص التقرير إلى كون القصر ليس مستعدا لتقديم أي تنازلات عن الأمور التي تعتبرها الحركة غير متماشية مع قناعاتها الفكرية. الأمر نفسه ينطبق على الحركة، التي أوضح التقرير بأنها غير مستعدة في الوقت للتخفيف من حدة مواقفها المعارضة للمؤسسة الملكية، إضافة إلى اقتناع الحركة بأن مشاركتها في الحياة السياسية لن تجعلها قادرة على تغيير العمل السياسي داخل البرلمان. وفي هذا الصدد، أوضح تقرير المعهد أن حركة العدل والإحسان «تمكنت من كسب دعم فئات عريضة أثناء لعبها دور المعارضة غير الرسمية، وسعت إلى استغلال صراعات حزب العدالة والتنمية مع ما هو متجدر في التوافقات التي يقودها المخزن»، حسب ما ورد في نص التقرير. مقابل ذلك، أوضح تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أنه إذا نجحت الدولة في إدماج حركة العدل والإحسان في الحياة السياسية، فإن ذلك سيشكل انتصارا للمخزن، الذي سيكون بذلك قد تمكن من «تطويع أكبر فصيل إسلامي في تاريخ البلاد، وأثقلها وزنا، وأكثرها عنادا من الناحية الإيديولوجية». انتظار فرص أفضل بخصوص السيناريو الثاني المتعلق باستمرار العدل والإحسان في تنفيذ التزامها بعدم المشاركة في الحياة السياسية، أوضح التقرير أن الدائرة السياسية تماطل في الكشف عن جميع أوراقها، مشددا على أن الحركة تراوغ حتى لا تضطر لتقديم أي تنازلات للمؤسسة الملكية، رغم وجود رغبة في الوقت الراهن لدى العدل والإحسان لتقديم بعض التنازلات. وعن الأسباب التي تمنع حركة الشيخ عبد سلام ياسين من القيام بذلك، عزا التقرير ذلك إلى مخاوف الحركة من فقدانها لهامش المناورة، وبالتالي القدرة على التفاوض، وظهورها بشكل ضعيف أمام المخزن. وحسب التقرير، فإن قيادي الحركة يضعون دائما نصب أعينهم مصير باقي الأحزاب السياسية التي اختارت دخول اللعبة السياسية. في المقابل، عزا التقرير اختيار العدل والإحسان نهج طريق الممانعة إلى ما يعرفه المشهد العربي من تحولات إقليمية بعد تراجع نفوذ عدد من الجماعات الإسلامية التي برزت على الساحة السياسية، بعد الكوة التي فتحها الربيع العربي، وأوضح أن الحركة ستتفادى في ظل هذه التحولات دخول غمار العمل السياسي في هذه اللحظة بالذات. «اختيار المضي قدما في طريق المشاركة في الحياة السياسية هو قرار في حد ذاته قد يؤثر على طبيعة الأشخاص المنتمين للجماعة ودرجة نفوذها»، كما جاء في التقرير الذي انتقل مباشرة بعد ذلك إلى تقييم مدى قدرة الجماعة على الاستمرار في الممانعة. وحسب تقرير المعهد الأمريكي فإن قدرة الجماعة على الانتظار حتى تظهر الفرصة المناسبة تنبع من مفهوم القومة، المترسخ بشكل قوي في أدبيات التنظيم، والذي يقضي بأن التغيير ينبغي أن يستمد من القوة وبدون اللجوء إلى العنف. «مفهوم القومة يقدم كذلك المصوغات لقيام الجماعة بالعمل والتنسيق مع جماعات أخرى ذات رؤى مخالفة إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، كما حصل عندما وضعت الجماعة يدها في يد حركة 20 فبراير. يمكن توقع أن تقوم الجماعة باستغلال الاستراتيجية نفسها إذا ظهرت فرص مماثلة في المستقبل من أجل فرض الجماعة للقومة والحصول من خلال ذلك على النفوذ»، كما جاء في نص التقرير، الذي خلص إلى كون الأوضاع الراهنة ومحاولات جماعة العدل والإحسان إعادة ترتيب البيت الداخلي، سيجعل من استمرار الوضع القائم الخيار الأبرز بالنسبة لأتباع الشيخ عبد السلام ياسين. البحث عن شراكات استراتيجية أما الخيار الثالث المتاح أمام الجماعة والمتمثل في استمرار العدل والإحسان في تحاشي دخول اللعبة السياسية والبحث عن إقامة تحالفات مع تنظيمات لا تحمل الرؤى والتوجهات نفسها، فمازال أحد الأمور المطروحة. «قرار مثل هذا قد يجعل الجماعة تتحالف مع حركات معارضة للنظام مثل 20 فبراير، وذلك بغية تعزيز حضور التنظيمين. وفي الواقع، فإن قدرة حركة 20 فبراير على توحيد صف اليسار الاشتراكي، وأطراف أخرى من اليسار العلماني، والإسلاميين في منطقة يصعب فيها كثيرا الوصول إلى تسوية دينية-علمانية أمر رأى فيه عدد من الملاحظين عملا بطوليا»، يقول التقرير. بالمقابل أوضح التقرير أن جماعة العدل والإحسان قد تسعى إلى الانضمام إلى اليسار العلماني، بيد أن أمرا مثل هذا يظل مستبعدا تحت راية حركة 20 فبراير. كما يظل، حسب التقرير، حزب العدالة والتنمية شريكا محتملا للحركة قد يسعى إلى التقرب من الجماعة بسبب قوتها العددية، رغم كون العدل والإحسان ردت على تلك المحاولات بأنها توافق على فكرة الحوار بدل وضع اليد في تنظيم واحد. وبخصوص إمكانية تحالف الجماعة مع قوى أخرى لا تشاطرها الخلفيات نفسها والأدبيات نفسها، توقف التقرير عند تصريح سابق لفتح الله أرسلان أوضح فيه أن «القيم المشتركة كالعدالة الاجتماعية» هي ما يوحد جماعة العدل والإحسان والتنظيمات العلمانية. وعن التطورات التي يحملها هذا السيناريو في طياته، جاء في التقرير ما يلي: «بطبيعة الحال، إن البحث عن إقامة شراكات استراتيجية لا يتطلب بالضرورة وجوب دخول المشهد السياسي سواء لحظة ربط الشراكات أو بعد مرور فترة من الزمن... وفي الواقع، وفي لحظة صياغة هذا التقرير، قامت جماعة العدل والإحسان باحتضان طاولة للنقاش ضمت العديد من أعضاء حزب الاستقلال، وعددا من رجال الأعمال، وعددا من وجوه اليسار، لبوا الدعوة من أجل مناقشة الإصلاحات الديمقراطية ووضع الأسس من أجل العمل المشترك في المستقبل. ومن ضمن المواضيع التي كانت على طاولة النقاش وصول الإسلاميين إلى السلطة، ودور العلمانية، وقضية الإرهاب».