محمد بصير اسم تفرق مصيره بين الدول، هو مؤسس «الحزب المسلم» وقائد أول انتفاضة في وجه الاستعمار الإسباني في الصحراء، وهو «الأب الروحي» كما تصفه جبهة البوليساريو التي تاجرت بقضيته قبل أن تتخلى عنه، خوفا من زعامته وولائه للمغرب، وهو «الابن العاق» الذي ساهمت المخابرات المغربية في رسم صورته، بكونه انفصاليا رغما عنه ودون علمه، بدايات مجهولة، وشباب متحمس وثائر، ونهاية غامضة لأهم الشخصيات في تاريخ الصحراء بالمغرب المعاصر، تضرب إسبانيا أسوارا من القيود حول مصيره، وتمنع أسرته من دخول أراضيها للاطلاع على أزيد من مليون وثيقة تخصه، قائد انتفاضة «الرملة» الذي مرت 44 سنة على اختفائه فيها في 17 يونيو 1970م، من يكون محمد بصير الذي ولد بزاوية والده الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني عياط بأزيلال؟ «المساء» تعيد تجميع ما تناثر من حقائق حول شخصيته وتكشف الخيوط الخفية حول شخصية رسمت بغموضها قضية الصراع في الصحراء بين المغرب وإسبانيا وجبهة البوليساريو والجزائر. سيكبر الطفل محمد بصير وسط الزاوية وهو يعاين شقيقه الحاج عبد الله، شيخ الزاوية، يقوم بأمورها، دون أن يشغله الأمر عن الاهتمام أيضا بكونه نقيب الشرفاء الركيبيين الذين تزعم زيارتهم للملك محمد الخامس. كان الشيخ سيدي عبد الله يمثل استمرارا لعمل والده، ويرى فيه أهل الصحراء خير من يمثلهم بما جمعه من رجاحة عقل وحكمة، كان الصبي محمد بصير رفقة أخيه المصطفى يتابعان وهما طفلان ما يقوم به الأخ الأكبر ويثبت في عقليهما. بعد حفظه للقرآن الكريم برحاب الزاوية ببني عياط سيلتحق الطفل محمد بصير رفقة شقيقه المصطفى بالمدرسة متأخرين. كانت تلك الرحلة الأولى للطفل محمد بصير بعيدا عن دفء الأسرة وحضن العائلة وستكون الوجهة مدينة الرباط، هناك سيحصل على الشهادة الابتدائية بإحدى مدارس الرباط. كان الطفل محمد بصير نبيها وكان شقيقه الحاج عبد الله يرى أن يستمر رفقة شقيقهما المصطفى في تلقي العلم، فتقرر التحاقهما معا بجامعة ابن يوسف بمراكش. كانت جامعة بن يوسف مؤسسة تضم خيرة أبناء المغرب آنذاك، وسيمر منها العديد ممن صنعوا تاريخ البلد فيما بعد، كان أبرز الأسماء الزعيم علال الفاسي ومحمد المختار السوسي اللذين كانا مدرسين بها، وعلى يدي المختار السوسي تلقى المصطفى بصير، شقيق محمد بصير، العلم، ومن هنا سيمر عبد الله ابراهيم رئيس أشهر حكومات المغرب الحديث، وسيمر من هناك المقاوم محمد بن سعيد آيت إيدر، والفقيه البصري، كما سيمر من هناك عبد السلام ياسين وغيرهم كثير. ستتفتح آفاق العلم والمعرفة لهذا الفتى القادم من بني عياط، هناك سيتعرف على تاريخ الحركة الوطنية في مهدها، يقول الأستاذ عبد الله ابراهيم، في معرض حديثه عن الحركة الوطنية في مراكش خلال الثلاثينيات، وكان زعيمها والشاهد عليها: «ابتدأت هذه الحركة سنة 1934 في جماعة تنتمي إلى الجامعة اليوسفية آنذاك، كان ابن يوسف يعج بالطلبة.. وكان بين أحضانه جماعة متفتحة من الطلبة يتراوح عدد أفرادها بين 6 إلى 10 أشخاص، كانوا ينتمون إلى «ابن يوسف»، لكنهم كانوا يتطلعون إلى ما هو أحسن، فالدراسة في ابن يوسف تتوفر على مجموعة من الأساتذة كل واحد منهم يكرر نفسه، وكان التركيز بالدرجة الأولى على الفقه والنحو كانت تدرس «الأجرومية» وتخرج فيها عدة سلك، وشروح الشيخ خليل، و شروح الألفية. وقد كان من المطالب الأولى لهذه الجماعة تنظيم الدراسة، واتجاهها هذا اصطدم بعراقيل من مجموعة من المحافظين». كان المستعمر يراقب التعليم بجامعة بن يوسف خاصة أنها كانت مشتلا للمتعلمين الذين يمكنهم أن يهددوا بنشر الوعي وسط المواطنين، نجح رفاق عبد الله ابراهيم في تطبيق النظام الذي يريدونه ب«قراءة المواد التي نريد، وكنا على اتصال بكل ما يجري في الشرق، فعن طريق مصر تعرفنا على ما يجري في الهند، تعرفنا مثلا على أفكار غاندي، وتعرفنا على سعد زغلول، وكان بعضنا يحفظ نصوصه». نشأت مجموعة مراكش الوطنية في أحضان جامعة بن يوسف وكان من بواكير نضالها المطالبة بتطبيق النظام الدراسي على غرار ما جرى به العمل في فاس، كانت جامعة بن يوسف هي التربة الخصبة لنشأة الحركة الوطنية بمراكش على غرار نشأتها بجامعة القرويين بفاس، كان مطلب إصلاح النظام التعليمي بوابة للاطلاع على تجارب المشرق بالتعرف على مختلف حركات التحرر، منها الحركة السلفية التي كانت بداية الفكر العربي الحديث في المشرق وبداية مجابهة المحتل الأجنبي بالحركة الفكرية والوطنية، يحكي عبد الله ابراهيم قائلا: « تنبغي الإشارة إلى أن التيار السلفي تياران، أحدهما ثوري وهو تيار جمال الدين الأفغاني، وآخر معتدل وهو تيار محمد عبده، وهو فكر فقهي مستحدث، وهذا الأخير هو الذي كان له دور كبير في المغرب. (عبد الله ابراهيم من خلال مداخلة ألقاها في كلية الحقوق بمراكش عام 1998م. نقلها محمد الطوكي في مجلة دعوة الحق عدد 366). حقق النظام التعليمي الذي طالب به عبد الله إبراهيم ورفاقه أهدافه، إذ كانت دروس علال الفاسي تحمي الروح الوطنية، وتتهم سياسة المستعمر، وتفضحها وتحاصرها، ولهذا كانت أعين المستعمر تراقب هذه الدروس، وتتعسف أحيانا بالمنع والمتابعة والاعتقال يقول: Attillo Gaudio» بمجرد ما تخرج علال الفاسي من جامعة القرويين، بادر إلى التطوع بتدريس تاريخ الإسلام في هذه الجامعة، وكانت دروسه ملتقى للنخبة المتنورة من الشباب وعامة الشعب، وعندما علمت الحماية بما يدور فيها، منعت هذه الدروس وحاولت إلقاء القبض عليه. وسارت السلطات الاستعمارية على نفس النهج في التنكيل بعلماء مجموعة ابن يوسف، وليس من باب الصدف أن يقترن نفي «الزعيم علال الفاسي» إلى الغابون سنة 1937، بالزج بنشطاء علماء ابن يوسف في غياهب سجون تارودانت، ومن هؤلاء شيخ الجماعة بلحسن الدباغ، وعبد القادر المسفيوي، و احمد بنفضيل وابن عبد الرازق وعبد الله ابراهيم، وعبد القادر حسن، أما المختار السوسي فقد نفي إلى «إليغ». (محمد الطوكي، مجلة دعوة الحق ع 366 أبريل 2002). كان اختيار الشيخ عبد الله البصير تدريس شقيقيه محمد بصير والمصطفى في جامعة بن يوسف عن تخطيط مسبق واتصال مباشر مع المختار السوسي، الذي كان يزور شيخ الزاوية وكانت له بالعائلة علاقة متينة، كان الشيخ عبد الله البصير بما يملكه من روح وطنية يريد لشقيقيه أن يكون لهما شأن عظيم في المستقبل باختيار تدريسهما في جامعة بن يوسف التاريخية . سيتلقى محمد بصير أولى دروس الوطنية.. وهناك سيكمل دراسته الثانوية. كان الفتى مراقبا من طرف شيخ الزاوية وشقيقه الأكبر الذي يحرص على تعليم أفراد العائلة مؤمنا أن زعامة العباد تتطلب أولا العلم قبل التقوى، كان الشاب محمد بصير يراجع الزاوية في العطل والأعياد، ولم ينقطع حبل الود بينه وبين الزاوية، وكان يتلقى عن أكابر العلماء كما تلقى أخوه المصطفى عن المختار السوسي وغيره .