« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. منْ منّا لا يعرف موسوليني، ذلك المُخبر الشهير في المسرحية الفكاهية الشهيرة (شاهد ما شافش حاجة)، لكن كثير منّا لم يقف على حقيقة موسوليني، ذلك السّفاح الفاشي الإيطالي الذي لم ينل القدر الكافي من النقاش لتاريخه الدموي ومصيره المحتوم، بعد أن علقته الجماهير الإيطالية رفقة عشيقته كلارا وأتت به مسحولا إلى العاصمة الايطالية روما، لم ينل الاهتمام الكافي في كتب التاريخ كما ناله رفيقه وسفاح ألمانيا الدموي هتلر، الذي يزعم أنه الاشتراكي القومي رغم أن موسوليني هو الذي أسس الفاشية وأدار إيطاليا لفترة أطول، كما أدار هتلر ألمانيا النازية، إضافة إلى أن جرائمه قد امتدت لمساحات أطول وإثنّيات أكبر من تلك التي ارتكبها هتلر، بعد أن وصل موسوليني إلى ليبيا والصومال والعالم الجنوبي المجهول من الكرة الأرضية، حيث مذابحه الدموية في إثيوبيا التي عمد إلى إبادة قراها ومدنها بالغاز السام وحصد معها أكثر من نصف مليون، وطال معها الشعب الليبي، وقضائه على ثورة عمر المختار هناك... كان بنيتو موسوليني(بنيتو اميلكاري إندريا موسوليني) ابن الحدّاد الاشتراكي والأم ناظرة المدرسة قد نما وترعرع على الهمجية والتهوْر، مما حال دون دخوله الكنيسة رفقة والديه مرات ومرات لسوء سلوكه الدائم، بعد أن أخذ يقذف رواد الكنيسة بالحجارة الصغيرة، ومنذ ولادته في 29 من يوليو 1883 بقرية «دوفو دينو برايدابيو»، تلك القرية الصغيرة المتواجدة في الشمال الإيطالي قبل أن يطلق عليه بنيتو تيمّنا بالرئيس الإصلاحي المكسيكي «بنيتو خواريس»، وهو الأمر عينه الذي تأخر بمقتضاه من دخول المدارس الداخلية، بعد أن بدا قليل الكلام كثير الشجار يجيد استعمال قبضته..، يسرق وينهب ما يحمله أقرانه حتى تم طرّده من المدرسة لحظة إقدامه على طعن زميل له بسكين حاد في بطنه، وبخصوص هذا يروي أحمد ناصيف في كتابه ( موسوليني: أسطورة لا تريد أن تموت) واصفا طفولة موسوليني بالقول «... كانت ملامح التمرّد والهمجية قد بدأت على الطفل الصغير منذ سن العاشرة من عمره، بعد أن قاد أول تمرّد له على الطعام في مدرسته الكاثوليكية الداخلية، وقام على إثرها بطعن زميل له بسكين حاد يحملها على الدوام ويتم طرده على الفور، وهو سلوك همجي ودموي رافق الصغير حتى في سنوات الخدمة العسكرية التي سرعان ما هرب منها نتيجة عدم تقبله الخضوع للأوامر والقرارات العسكرية الإلزامية، مُتجها إلى جنيف السويسرية مع بدايات العام 1902 حيث ألقت عليه سلطاتها القبض بتهمة التشرّد وإيداعه المعتقل ليلة واحدة والإفراج عنه ثم اعتقاله في صبيحة اليوم نفسه (24 يوليو 1902) من طرف الشرطة تحت أحد الجسور رفقة جواز سفره وشهادة التخرج الأولى و50 سنتيما لا غير، لتسند إليه إضافة إلى التهمة الأولى تهمة التسوّل، ويتم قضاء الأسبوع داخل السجن نفسه، وينطلق بعد حين إلى عالم الحرية، دون أن يتوقع أحد حتى والدته بأن هذا الأخرس الصغير ( كان موسوليني قد تأخر في النطق لسنوات فظنت أمه أنه سيكون أخرس طوال عمره) سيعدو خطيبا مفوها بكاريزميته وجاذبيته التي نالت سريعا إعجاب هتلر نفسه، بعد أن طلب منه صورة موقعة بتوقيعه، قبل أن ينالها بعد توطيد علاقتهما ووصول موسوليني إلى سدّة الحكم الإيطالية من خلال زعامته للحزب الفاشي الإيطالي انطلاقا من العام 1920 ( وصل إلى سدّة الحكم الفعلي عام 1922)». بحلول العام 1904 عاد موسوليني إلى إيطاليا التي قامت سلطاتها باعتقاله وإيداعه السجن بتهمة التهرب من أداء الخدمة العكسرية (بعد أن تم تسليمه من طرف سلطات مدينة انماس الفرنسية التي عمل فيها لسنوات كمدرس في إحدى المدارس الابتدائية)، وينطلق بعد حين إلى الاستقرار بمدينة تورنتو بدايات العام 1909 بعد أن وجد له منصبا إداريا للفرع المحلي للحزب الاشتراكي، في الوقت الذي عمل فيه مُحرّرا في صحيفة (افغنيري دل لافوراتوري: إلى الأمام)، التي نشر على صفحاتها أولى رواياته الرومانسية المبتذلة بعنوان «عشيقة الكاردينال» في الفترة ما بين 1909/1910 بعد أن أخذ يقيم لفترات قصيرة ومتقطعة في سويسرا حيث عمل فيها بناء بإحدى شركات المقاولات التي تعرف فيها على الزعيم الاشتراكي غواليالمو كانيفاشيني الذي استضافه فيما بعد داخل بيته، وظلّ على اتصال دائم به حتى مطلع العام 1911 الذي أعلنت فيه إيطاليا الحرب على تركيا وتحرّكت بجيوشها صوب ليبيا، ليجد موسوليني نفسه وقد تزّعم الحركات المناوئة لهذه الحرب التي بدأت تجتاح المدن الإيطالية بمظاهرات عارمة كانت سببا مباشرا في إيداعه السجن مرة أخرى ولفترة امتدّت أشهرا بكاملها، سجن لقي بموجبه موسوليني ترحيبا كبيرا من طرف الاشتراكيين الذين قاموا بتعيينه رئيسا لتحرير جريدتهم الوطنية (إلى الأمام) الذي قام ودون مشاورات واقتراحات مع قيادة الحزب بنشر مقال في افتتاحيتها يطالب فيه إيطاليا بالدخول إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية، وهي دعوة تسببت بطرده من العمل والحزب معا بعد أن وجهت إليه تهم متعدّدة كان على رأسها اتهامه بالخيانة. مع بداية الحرب العالمية في العام 1914 كانت الفاشية قد أصبحت حركة سياسية منظمة، وتمكن موسوليني من خلال انتمائه إليها وتجرّده من الشيوعية من دخول البرلمان عام 1912 وبدأ بتكوين قوة من المُحاربين القدامى أطلق عليهم اسم «سكودريشتي» التي أخذت تزحف بمظاهرات كبرى نحو العاصمة روما، بعد أن شارك فيها نحو أربعين ألف من أصحاب القمصان السوداء الذين جاؤوا من مختلف المدن الإيطالية، ويحقق موسوليني (بمسيرته تلك) نجاحا عظيما استسلمت معه الحكومة الايطالية، واضطر الملك الايطالي (فيتوري مانويلي الثالث) إلى دعوة موسوليني لتأليف وتشكيل حكومة جديدة يكون بنفسه على رأسها في 31 أكتوبر 1922 ليضحى بذلك أصغر رئيس للوزراء في تاريخ إيطاليا دون أن يتعدى عمره التاسعة والثلاثين، ويبدأ موسوليني ومن خلال حزبه الفاشي الجديد بتطبيق السياسات القمعية ضد المعارضين، فقمع أعضاء حكومته وقتل القادة منهم ممن يعارضون الفاشية....، مُحرّما التجمعات والإضرابات....، وسّن قوانينه الجديدة التي ألغى فيها الأحزاب مُستثنيا حزبه الفاشي، داعيا الجماهير بالقول «......لقد حلمت بكم وحلمت بهذا اليوم التاريخي الذي أقف فيه أمامكم وأقودكم نحو الحرية والمدنية، إنني إذ أفعل مثل هذه السياسات حفاظا على مصالحكم ومن أجلكم، ولتعلموا أني جئت من أجلكم، فأن يعيش الإنسان يوما واحدا مثل الأسد خير له أن يعيش مائة عام مثل الخروف...»، ودعاهم إلى الالتحاق بمعسكرات التسّييس الفاشية بغية إعدادهم كجنود حيث الإيمان والطاعة والقتال من أجل المبادئ. يررى ريتشارد بوسوث في كتابه(إيطاليا في عهد موسوليني: الحياة في ظل الديكتاتورية) «....كان الفاشيون بزعامة موسوليني يحملون على الدوام عباراتهم التي تقول: نحن الفاشيون بحاجة إلى زعيم قوي لا يتردّد عن سفك الدماء لفرض هيبته وسطوته على الجميع، فكلما كان عنيفا قويا مُرعبا كلما خاف الناس منه وكلما تعلقنا به أكثر، هكذا يجب أن نحكم ونسيطر على الشعوب لتبقى تحت سيطرتنا وحكمنا، وهي عبارات انطلقت معها قوات موسوليني إلى تنظيم الغارات المتتالية على الأرياف، يقتلون الناس ويغتالون قادتهم دون رحمة، في الوقت الذي بدأت معه حركات تنظيم شاملة لتعليم الفاشية واعتقال العشرات من الصحفيين وتجريدهم من صفاتهم وانتمائهم للنقابات وإغلاق صحفهم، حينها بدأت أولى ملامح الكراهية ضده شيئا فشيئا في الظهور، خرج موسوليني هاتفا بهم من جديد يعلمهم بتجديد سياسته التي كان الهدف منها جعل إيطاليا دولة عظمى يخشاها الجميع، وعزم على عقد التحالف مع هتلر في 25 من أكتوبر 1936 ضمن المعاهدة التي أطلق عليها (الحلف الفولاذي) التي مكنته فيما بعد من تقوية جيشه لاحتلال ليبيا دون تحقيق حلمه العسكري وهو السيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي أراد تحويله إلى بحيرة إيطالية تمتد جذورها وحدودها من الحبشة حتى سواحل غينا الغربية، لكن تلك السياسات والخطابات لم تشفي غليل الجماهير الغاضبة التي اكتوت بنيرانه وسياساته الدموية وهبّت إلى الشوارع بعد حالة الجوع والاختناق الشديد التي بدأت تعمّ إيطاليا مع بدايات العام 1942 وقد بدأت تهتف ضد موسوليني ملهم الأجيال وصديق الأمس عدو اليوم، بعد أن أوصل البلاد إلى حالة اقتصادية وعسكرية متدهورة وسيئة، واضحي بذلك عدو الشعب الأول بعد أن أصدر الملك أمرا باعتقاله والقبض عليه ومحاكمته حتى تم تنفيذ الحكم بالإعدام شنقا رفقة عشيقته كلارا بياتشي وبعضا من رفاقه يوم 29 من أبريل 1945، لتنتهي بذلك أسطورة الرجل الحديدي والدموي الذي طالت جرائمه مختلف فئات الشعب الإيطالي، وامتدت لتطال ليبيا وإثيوبيا، إذ قتل منهم ما يزيد عن نصف مليون مواطن. معادي أسعد صوالحة