انهارت عمارات الدارالبيضاء وحدث ما حدث، والاتهامات بالمسؤولية تحلق فوق رؤوس الجميع، لكن قريبا سينسى الناس هذه الفاجعة كما نسوا فواجع كثيرة قبلها، وسيجلسون في انتظار فواجع أخرى. عندما انهارت عمارات البيضاء، تساءل الكثيرون: لماذا؟ لكن لا أحد يمتلك الجواب، فالعمارات ليست قديمة بما يدفعها إلى الانهيار، فهناك عمارات بُنيت قبل قرون ولم تسقط إلى حد الآن، لذلك، إن كان في هذه البلاد حكماء، فليس المطلوب منهم فقط محاسبة المسؤولين عن انهيار العمارات، بل أيضا مسابقة الزمن لرصد أي العمارات ستسقط، لأنه يبدو أن المغرب صار يعيش زلازلا خارج سلم «ريشتر»، وربما ستقوم القيامة فيه قبل باقي العالم. ما حدث في الدارالبيضاء لا يشي فقط بانهيار العمران، بل هناك مسألة أخرى غاية في الخطورة، وهي أننا بلد يستهين كثيرا بأرواح مواطنيه، إلى درجة أنه في كل مرة تقع كارثة فإننا نقف مشدوهين أمام ضآلة وتخلف وسائل الإنقاذ وضعف تكوين المنقذين. في فاجعة الدارالبيضاء، رأينا كيف أن شباب الحي كانوا المبادرين إلى عملية الإنقاذ. صحيح أنه لا يمكن قبول دخول أشخاص عاديين إلى مكان منكوب من أجل عملية الإنقاذ، لكنه لا يمكن أيضا انتظار وقت طويل ما بين وقوع الكارثة وحضور أفراد الإنقاذ. في فاجعة الدارالبيضاء، رأينا كيف يختلط المسعف، بعُدّته الكاملة ولباسه الرسمي، بشباب يرتدون «الشّورتْ» وقميصا خفيفا، وفي الغالب حفاة، ورأينا مدى المخاطرة التي يبديها هؤلاء في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن مهما كانت رغبة التضحية والإيثار كبيرة عند المغاربة فإنه لا يمكن أبدا قبول اختلاط الإنقاذ المحترف بالإنقاذ العشوائي، لأنه في كثير من الأحيان، وعندما تتغلب العاطفة والحماس على الحرفية والتعقل، تتحول عمليات الإنقاذ العشوائية إلى كوارث إضافية. فاجعة مثل التي حدثت في الدارالبيضاء، لا ينبغي أن تفتح العيون على عوالم الغش والإجرام في البناء فقط، بل يجب أن تفتح عيوننا أيضا على مأساة أخرى، وهي مأساة وسائل الإنقاذ، ولو أننا كنا نتوفر على إنقاذ محترف ومزود بتجهيزات متطورة لما وصل عدد الضحايا إلى ما وصل إليه. الدارالبيضاء أكبر مدينة في المغرب، عمرانا وسكانا، ومع ذلك فإنها تتوفر على وسائل إنقاذ بدائية، فماذا سنقول عن مدن أخرى مهمشة وبعيدة، وماذا نقول عن قرى في أقصى الجبال؟ لكن الدارالبيضاء ليست وحدها المعنية بتخلف وسائل الإنقاذ؛ فمرة في طنجة، كان عمال يحفرون أسس عمارة قريبة من الشاطئ.. كانت عمليات الحفر تقام بدون أية إجراءات وقائية لمنع الانجراف، وفجأة حدث ما لم يتوقعه أحد، وانجرفت كميات كبيرة من الرمال المخلوطة بالحديد والصخور فوق عدد من العمال، وحاول رفاقهم إنقاذهم لكن دون جدوى، ثم انفجرت قنوات مياه وصاروا يغرقون بهدوء وينتظرون الموت ويبكون في مشهد يندر أن تجد له مثيلا في الأفلام الهوليودية. وبعد أن غرقوا، جاءت سيارة الوقاية المدينة، طبعا ليس لإنقاذ الأرواح، بل من أجل انتشال الجثث. وقبل بضعة أيام، حدث شيء محزن في مضيق جبل طارق، فقد كان قارب صيد يمخر عباب الماء قرب الشاطئ، وفجأة صدمه مركب أكبر منه فانقلب فورا. البحارة الذين غرقوا في هذا الحادث كانوا أربعة، ولو كانت هناك وسائل إنقاذ عادية، ولا نقول استثنائية، لما تم حرمان أربعة أسر من معيليها وتيتيم أطفال كثيرين. الأمثلة الثلاثة التي سردناها تدل على هول طبيعة الإنقاذ في هذه البلاد؛ فالدارالبيضاء أكبر مدينة وأكثرها سكانا وهي الرئة الاقتصادية للبلاد، ومع ذلك تسقط عمارات فيختلط الناس العاديون بالمنقذين الرسميين وكأن الحادث وقع في «دوّار» بعيد. وفي طنجة، التي توصف بكونها جنة العقار والمنجم الذي يجني منه وحوش الإسمنت أموال قارون وهاروت وماروت، لم يستطع أحد إنقاذ عمال بناء ظلوا يغرقون الدقيقة تلو الدقيقة والثانية تلو الثانية، بينما مركز الواقية المدنية لا يبعد عن مكان الفاجعة سوى بخمس دقائق مشيا على الأقدام. وفي مضيق جبل طارق، الذي نفخر بأننا نشترك في ملكيته، والذي تمر منه أزيد من مائة ألف ناقلة بحرية كل عام، لم نستطع إنقاذ أربعة بحارة بؤساء غرقوا على مقربة من الشاطئ. إنها ثلاثة أمثلة فقط من بين آلاف الحوادث الأليمة، والتي تبين أن هذه البلاد في حاجة إلى إنقاذ حقيقي.