التقيته بشقته بحي غوتيي في بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يكن قد مضى على وصوله من فرنسا حينها سوى بضع دقائق، وحكى لي بإسهاب حكاية مجموعة حققت لنفسها شعبية كبيرة.. قال لي ابن الحي المحمدي : «إننا نستعد لحفل فني خارج العادة، إذ ارتأينا في سهراتنا أن نقدم عرضا مسرحيا يمتزج فيه الغناء بالتمثيل المسرحي، إذ يمكن أن ألقي قصائد زجلية، وعمر يقدم السكيتش، وعلال يحكي عن البانجو.. وعبد الرحمان يحكي عن السنتير، وهو ما يسمى بالعرض المسرحي/الدرس»... لازالت أتذكر كلمات الرجل وكأنها بالأمس.. وأحتفظ له بداخلي بإعجاب كبير.. العربي باطما، وهذا هو اسمه الذي عبر سريعا إلى ذاكرة الجمهور المغربي بتأشيرة إبداع.. كان يحلم بقلب كبير.. يحلم بأن تزداد شعبية الغيوان، وتحمل الجديد الفني لجمهور عاشق.. كان العربي يدرك أكثر من غيره أن مجموعة ناس الغيوان مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بالحفاظ على قاعدتها الجماهيرية الكبيرة.. وأن الأمر يستدعي الكثير من العمل وتقديم الجديد الفني الذي يستجيب لرغبات جمهور غيواني كبير...كان هذا قبل 20 سنة من الآن.. قال لي العربي : «عشاق ناس الغيوان لازالوا كما هم، فقط يبقى التساؤل هو ماذا سنقدم لهذا الجمهور الرائع، إن هذا التجديد لصالحنا جميعا، والراس اللي ما كيدور كدية».. العربي باطما، كان يحسب الكلمات قبل النطق بها، كان يعرف أن ناس الغيوان أكبر من مجموعة غنائية حققت لنفسها شهرة واسعة بأغان مثيرة.. يختصر الرجل التعريف ببضع كلمات.. «ناس الغيوان كفكرة أقوى مني شخصيا، وأقوى من عمر السيد، أقوى من علال وعبد الرحمان، وأقوى حتى من بوجمعة رحمه الله.. ناس الغيوان، أصبحت عبارة عن روح أقوى منا جميعا كأشخاص، لأنها دخلت التاريخ، ولا يمكن أن يأتي طالب مثلا في عام 2040 مثلا، ويريد أن يقدم أطروحة عن الفن الشعبي ويتجاوز ناس الغيوان، لأن بحثه سيكون ناقصا... ناس الغيوان أكبر من أن تقنن أو توضع في خانة».. انتهت كلمات العربي باطما رحمه الله، ولست أدري كيف وجدتني أنبش في الذاكرة لأختصر بالكلمات مسار مجموعة غنائية صنعت الحدث يوما بألبومات فنية لا زال صداها يتردد حتى الآن.. لكن، ناس الغيوان الأمس ليست هي ناس الغيوان اليوم، مات بوجميع والعربي وعبد الرحمان باكو، وغادرها يوما مولاي عبد العزيز الطاهري، واختفى علال.. ولم يعد هناك غير عمر السيد.. ولم يعد العطاء بمستوى الأمس.. أعرف رشيد، الفنان الذي بصم على حضور قوي مع مجموعة مسناوة، وأعرف حميد باطما، الذي أمتعنا يوما وهو يغني «العود لزرق» و»حمادي» و»امحمد يا وليدي».. ولم أعد أسمع تميز صوته داخل الغيوان.. فمن يملك زجل العربي وتميز العربي، وهل هناك من يعوض علال؟ العربي، كان هو قنديل الغيوان، كما رثته المجموعة يوما.. ولا أريد أن أكون قاسيا في حكمي على ناس الغيوان، أعرف أن عمر السيد لم يرد لشرارة هذه المجموعة أن تنطفئ، قاومت «شح» السهرات الفنية ببلادنا، قاومت غياب أغلب نجومها، وتعود اليوم بالبوم «البركة» ولكن، دوام الحال من المحال..