يمضي الخطابي في سرد أحداث الحرب بشكل كرونولوجي، وأحيانا يعود لذكر بعض التفاصيل القليلة في لغة مكثفة على شكل لغة "التلغراف" أو لغة "الشيفرة" التي يفهم الباحث المختص رموزها، أما القارئ العادي فقد لا يجد فيها ما يغني فضوله من تفاصيل. بعض فصول المذكرات لا تتعدى سطرا واحدا. وعلى الرغم من الاختصار الشديد، فإن هذه المذكرات تحمل ما يفيد بأن مسار الخطابي خلال الحرب لم يكن ظرفيا.. الغرض منه مواجهة الغزو فقط، وأنه أجبر القبائل الريفية على خوض الحرب إلى جانبه، وعندما أحست تلك القبائل بضعفه تمردت عليه وعادت إلى "سيبتها". عبد الكريم، حسب هذه المذكرات، كان فعلا يفكر في مشروع مستقبلي؛ يقول في فصل "قصدنا وغايتنا": "قد يتراءى مما تقدم أن قصدنا وغايتنا هي غاية القبائل الريفية وأننا لسنا بمتسلطين على هاته القبائل، وهو الدفاع عن كياننا وحقوقنا معتمدين على حقانية مسألتنا ومطالبنا التي لا ينكرها أحد. وقد أعلنا هذا لإسبانيا قبل حادثة أنوال وبعدها، وجاهرنا بعد الحادثة بطلب الانفصال عنها ورفض حمايتها بالكلية لأننا نعلم، كما يعلم الإسبان أنفسهم، أن مصلحتنا ومصلحتهم هي عدم تدخلهم في الريف، كما أعلنا هذا أيضا للحماية الفرنسوية ولفرنسا، وطلبنا تدخلها لحل المسألة". أما خيبته في فرنسا فكانت كبيرة، ليس فقط لأنها اصطفت إلى جانب الإسبان وحاربته حتى استسلم، بل أيضا لاتخاذها قرار نفيه بعيدا عن المغرب: "لم نكن نظن أن يقع الحكم بنفينا إلى هذا المحل منذ وصلنا إلى ترجيست، بل كان يغلب على ظننا أن يقع شيء من المخابرة في شأن الريف حسبما عاهدوا نوابنا في (مؤتمر) وجدة مع بعض التغييرات التي نص عليها البلاغ الأخير الذي كان بيدنا عقب انقطاع مخابرة المؤتمر، ولكن مع الأسف قد خاب ظننا وتحولت المسألة إلى حالتها الحاضرة، وعليه فإننا نعتبر هذا النفي غير موافق للعدالة، لا من الجهة القانونية ولا من جهة شخصنا الذي كنا نميل دائما إلى جهة فرنسا رغما عن جميع الحوادث التي وقعت من غير إرادتنا".
هل في المذكرات جديد؟ تضم المذكرات، كما ذكرنا أعلاه، "شيفرات" يمكن حلها ومقارنتها بالوقائع والأحداث، ولكنها لا تتضمن ما يمكن عده في خانة "المعلومة الجديدة" أو "المعلومة الخطيرة" التي قد تقلب بعض المفاهيم. ترسم هذه المذكرات باقتضاب مسار الخطابي منذ مبتدإ حركته إلى نهايتها في لغة "هادئة" و"دبلوماسية". وهذا ما يمكن ملامسته أكثر أثناء حديثه عن الفرنسيين، فقد كان "رحيما" في حكمه عليهم رغم أنهم هم الذين كانوا وراء عملية إجهاض حلمه بإنشاء جمهورية حديثة، بل نراه يترجى منهم الخير، له شخصيا ولعائلته وللريف. قد يكون وضع الخطابي كأسير عند الفرنسيين ومنفي في جزيرة نائية لا يعرفها ولا يعرف ما إذا كان سيغادرها يوما، هو ما جعله يلتزم لغة مسالمة ومحايدة تجاههم. الملاحظ، كذلك، أن الخطابي لم يستخدم أيضا لغة "هجومية" أو "معادية" وهو يتحدث عن خصومه الإسبان، فلقد كان متزنا أيضا في اختيار كلماته تجاههم، ومتوازنا في إصدار الحكم على ما جرى. هذه اللغة "الهادئة" ستظهر بوضوح أكثر حينما نزل الخطابي في القاهرة عام 1947. لغة الخطابي تجاه خصومه السياسيين تميزت دائما بالرزانة والهدوء والتوازن، رغم أنه لم يساوم أبدا على المبادئ. "مخطوط أمزيان" لا يكاد يعرف شيء عن هذا المخطوط، إلا من قبل دائرة ضيقة من المقربين من أسرة الأمير الخطابي ومن أسرة أمزيان. المخطوط الذي نحن بصدده الآن هو في الواقع مخطوطان، الأول مكتوب بخط محمد سلام أمزيان؛ والثاني مرقون على الآلة الكاتبة وقام برقنه محمد أمزيان أيضا عندما كان في القاهرة. وهذا النوع الأخير هو الذي تتوفر عليه أسرة الخطابي، كما توجد نسخة منه أيضا لدى أفراد من أسرة أمزيان. في عام 1988، أنجزت بحثا جامعيا لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر في كلية الآداب بجامعة بغداد، وكان اعتمادي على "مخطوط أمزيان" كبيرا، وخاصة في ما يتعلق بحياة الخطابي في المنفى وعملية النزول في القاهرة. أما ما تعلق بتأسيس لجنة تحرير المغرب العربي فقد اعتمدت على وثائق مهمة كان محمد أمزيان، والدي، يتوفر عليها فضلا عن توفره على مخطوط المذكرات بطبيعة الحال. تلك الوثائق أسميتها "مجموعة وثائق أمزيان"، وهي المجموعة ذاتها التي اعتمد عليها بعد 20 سنة الباحث المصري حسن البدوي، مدعيا أنه "أول" من استخدمها، بل نسبها بغير وجه حق إلى نفسه تحت مسمى "مجموعة وثائق البدوي". يقول السيد البدوي متحدثا عن كيفية حصوله على الوثائق ومن "سمح" له باستخدامها: "لما كان الكاتب (البدوي) قد حصل على تلك الوثائق الأخيرة من الأستاذ/ سعيد محمد بن عبد الكريم الخطابي، نجل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما حصل منه على تصريح باستخدامها في إنجاز هذا البحث. ولكون الكاتب أول باحث عربي نال شرف استخدام ونشر تلك الوثائق والمذكرات في رسالة علمية، لذا فقد رُمز إلى تلك المجموعة من الوثائق ب"مجموعة وثائق البدوي" والتي سوف تدرج بملاحق هذا البحث. وبما أن سياق الأحداث قد جعل الكاتب يستعين ببعض الوثائق التي نشرها الأستاذ/ محمد محمد سلام أمزيان في كتابة "محمد عبد الكريم الخطابي آراء ومواقف" إضافة إلى تلك التي نشرها والده الأستاذ المرحوم/ محمد سلام أمزيان في كتابه "محمد عبد الكريم الخطابي" الجزء الخامس، والمعروفة ب"مجموعة وثائق أمزيان"، باعتبارها مكملة لما لدى الكاتب من وثائق، لذا فسوف تدرج تلك الأخيرة حسب ترتيبها الزمني ضمن وثائق البحث، مع الإشارة إلى أنها منقولة عن "مجموعة وثائق أمزيان"، ذلك حتى يُحكم نسيج الأحداث وتكتمل أركان البحث، وتكون بذلك من أكبر مجموعات الوثائق التي تخص تلك الفترة الهامة من كفاح المغاربة في العصر الحديث". قد يتساءل البعض: ما دمت قد أطلقت على المجموعة التي استخدمتها "مجموعة وثائق أمزيان"، إذ نسبتها إلى جامعها، فمن حق الأستاذ البدوي أيضا أن يسمي مجموعته باسمه؟ أولا: محمد أمزيان، الذي يعد أحد كتاب مذكرات الأمير، هو فعلا من جمعها ورتبها وفهرسها ونسخها وسلم نسخا منها إلى الأسرة الخطابية في القاهرة. وحينما غادر القاهرة نحو الجزائر في أواسط السبعينيات، كانت هناك ملفات أخرى في حوزته وتم تسليمها بعد ذلك إلى الأمير عبد الكريم (نجل الخطابي الأكبر). وبهذا الاعتبار، يمكن نسبة الوثائق إلى من جمعها وفهرسها وحازها قبل أن تسلم إلى أسرة الخطابي، ولا يمكن نسبتها إلى "أول" من اعتمدها في دراسة أو بحث، وإلا لنسب الباحثون كل شيء إلى أنفسهم عندما "يكتشفون" في دور الأرشيف وثائق وربائد يستخدمونها لأول مرة؛ ثانيا: إن ما اعتمد عليه السيد البدوي ليس "جديدا" كله، فقد اعتمده قبله محمد أمزيان في كتبه غير المنشورة، كما اعتمدت أنا شخصيا على جزء كبير منها باعتراف السيد البدوي نفسه. منهجيا، كان على السيد البدوي أن ينسب ما "تحت يده" من وثائق الخطابي إلى مصدره الحقيقي. هذه الملاحظة لا تبخس الأستاذ البدوي حقه في التعريف بهذه المستندات والعمل على نشرها في مناسبات عدة. يضيف الأستاذ البدوي في سياق الموضوع نفسه قائلا: "يُعد كتاب الأستاذ/ محمد سلام أمزيان، والمكون من ستة أجزاء (غير مطبوعة)، من أهم الكتب التي استفاد منها الكاتب، بما يحويه من أحداث ومستندات هامة، إضافة لكون الكاتب قد رافق الأمير الخطابي خلال الفترة الأخيرة من حياته، واشترك مع آخرين في كتابة مذكراته، فضلا عن قيادته للثورة الريفية بالمغرب عام 1958م - 1959م، لذا فإن الكاتب يُعد شاهد عيان على تلك الفترة من التاريخ المغربي". محمد أمزيان