كان مفيدا أن تجري انتخابات تشريعية في العراق بعد أربع سنوات وشهرين تقريبا من آخر انتخابات جرت في البلد. هذا لا يمنع من الاعتراف بأنّه إذا كانت الانتخابات الأخيرة أثبتت شيئا، فهي أثبتت أن الديمقراطية لا تهبط من السماء. الديمقراطية ليست سوى تتويج لعملية طويلة يمرّ خلالها المجتمع بتجارب عديدة تصبّ في اتجاه تطويره وصولا إلى مرحلة يصبح فيها ممكنا تنظيم انتخابات حرّة بالفعل. في عام 2010، تقدّمت في الانتخابات، وإن بفارق ضئيل، قائمة كان على رأسها الدكتور إياد علاوي الذي توفر له دعم عربي معلن. فشل علاوي لأسباب، عائد بعضها إلى شخصه، في تشكيل حكومة. كان هناك اعتراض إيراني عليه، وكان الجانب الأمريكي متفهّما لهذا الاعتراض. أدّى ذلك إلى تولّي نوري المالكي تشكيل حكومة لم تبصر النور إلا بعد مضي عشرة أشهر على الانتخابات. لم يستطع المالكي استكمال تشكيل الحكومة. بقيت حقائب أساسية فيها، بما في ذلك الداخلية والدفاع، في عهدته. كانت تلك إشارة إلى مدى النفوذ الإيراني في العراق. لكنّها كانت أيضا إشارة إلى وجود قوى، خصوصا بين الشيعة، مازالت تقاوم هذا النفوذ وإن بحياء وخفر. في الانتخابات السابقة، كما في الانتخابات الأخيرة، تبيّن أن لا معنى لأي انتخابات في غياب الوعي الاجتماعي والحريات العامة المضمونة عن طريق الممارسة، وليس فقط عن طريق الدساتير والقوانين. لا معنى للانتخابات في بلدان تتحدّث فيها الدساتير عن الحريات العامة في حين يمارس الحاكم أبشع أنواع التسلط متذرّعا، في معظم الأحيان، بحماية «الأمن القومي» كما هو الحال في سوريا. لا معنى للانتخابات مادام لا تداول سلميا للسلطة ومادام الهدف من الانتخابات تكريس أمر واقع. يتمثل الأمر الواقع في العراق في أن نوري المالكي، أو من ينوب عنه من حزب «الدعوة»، شخص لا غنى عنه لإيران، لذلك يجب أن يبقى في موقع رئيس الوزراء. عرف نوري المالكي كيف يمارس اللعبة الانتخابية وقبلها اللعبة السياسية، وليس اللعبة الديمقراطية. سيعود، على الأرجح، رئيسا للوزراء في العراق لولاية ثالثة بعدما صار رجل إيران في البلد. لم يعد في العراق مكان لزعيم سياسي لا يرفع شعار الدفاع عن طائفته بدل الدفاع عن العراق ووحدة أراضيه وعن الشراكة الوطنية في صنع مستقبل أفضل للعراقيين بغض النظر عن الدين والطائفة والمنطقة. كشفت الانتخابات العراقية، التي انتهت بتقدّم قائمة المالكي «دولة القانون» بأكبر عدد من المقاعد، أن العراق ليس مهيّأ بعد للانتخابات. إنّه مهيأ فقط للعب الدور المطلوب منه لعبه، أي دور «الساحة» بالنسبة إلى إيران، على غرار ما هو عليه لبنان. في سياق لعب العراق لهذا الدور المفروض عليه، لم يتردّد المالكي في إثارة الغرائز المذهبية التي زادت من عمق الشرخ بين الشيعة والسنّة. هذا على الصعيد الداخلي، حيث صارت المناطق التي فيها أكثرية سنّية متهمة بإيواء الإرهاب والإرهابيين. هناك حملات عسكرية على المناطق التي تعتبر سنّية من أجل إسكات أي معارض سياسي. صار مطلوبا من كل سنّي أن يفحص يوميا دمه لتأكيد أنه ليس إرهابيا وعنصرا من عناصر «القاعدة» وتوابعها. على الصعيد الخارجي، لم يعد يمر يوم دون حملة على دول الجوار في منطقة الخليج العربي، على رأسها المملكة العربية السعودية، من أجل تبرير الحملة التي تشنها السلطات العراقية على المناطق السنية. فجأة، صارت دول الخليج العربي مصدر كلّ الشرور. كاد المالكي أن يتهم هذه الدول بكونها وراء انعدام الأمن في كلّ العراق، باستثناء المنطقة الكردية طبعا، وانقطاع الكهرباء وأزمة المياه والصرف الصحي في كل مدينة وبلدة وقرية. ترافق ذلك مع انضمام النظام في العراق إلى الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه من زاوية مذهبية. صارت هناك ميليشيات عراقية تقاتل إلى جانب «كتائب الأسد» وميليشيا «حزب الله» في مختلف المناطق السورية. كل الشعارات المرفوعة في هذه الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري ذات طابع طائفي ومذهبي للأسف الشديد. يحدث ذلك بمجرّد أنه بات مطلوبا إيرانيا إنقاذ نظام بشار الأسد من منطلق أن «سوريا إما أن تكون لإيران أو لا تكون لأحد». من بوابة الحملة على الدول العربية الخليجية، إلى الدخول طرفا مباشرا في الحرب على الشعب السوري، مرورا، بطبيعة الحال، بتلبية المطالب الإيرانية في الداخل العراقي، لم يعد هناك بديل عن نوري المالكي أو من يمثله في «حزب الدعوة». هناك دفتر شروط إيراني استطاع الرجل تلبية بنوده. لم يعد هناك من خيار آخر أمام العراقيين غير الولاية الثالثة للمالكي أو لمن ينوب عنه من «حزب الدعوة». لم يكن الشعب العراقي مهيأ لانتخابات. الانتخابات تحتاج إلى حدّ أدنى من الوعي السياسي. ليس بمجرّد الانتهاء من نظام صدام حسين، الذي لعب دورا أساسيا في القضاء على نسيج المجتمع العراقي، يمكن أن يصبح العراق، بموجب التمنيات الأمريكية، دولة ديمقراطية تصدّر تجربتها إلى المنطقة. كان الأمريكيون في عهد بوش الابن يعتقدون أن العراق سيكون نموذجا لدول المنطقة، قبل أن يظهر أنه لم يعد سوى نموذج لما يمكن أن تكون عليه الدول الفاشلة في الشرق الأوسط وما يتجاوز الشرق الأوسط. ما تبيّن، نتيجة الاجتياح الأمريكي للعراق ووصول من وصل إلى السلطة على دبابة أمريكية، أن البلد الذي سلمته الولاياتالمتحدة إلى إيران على صحن من فضّة في حاجة إلى إعادة بنا ء نفسه. لا يمكن لميليشيات طائفية وأحزاب لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بما هو حضاري في هذا العالم المساهمة في إغناء التجربة الديمقراطية في أي بلد من بلدان العالم؛ فكيف الأمر في بلد مثل العراق لم ير يوما أبيض منذ ذلك اليوم المشؤوم من صيف عام 1958 حين حصل انقلاب دموي أطاح بالنظام الملكي؟ ما ظهر جليّا في العراق أن الناخب الأول، وربما الوحيد، كان إيران التي ستعيد المالكي، أو شبيها له، إلى السلطة بمجرّد التزامه بدفتر الشروط المطروح. وهذا يفسّر الحذر الكردي المشروع والمخاوف السنية التي تبدو، للأسف، مبرّرة أكثر من أي وقت. خير الله خير الله