عندما التقيت بالرئيس المصري محمد مرسي ظهر الرابع من يونيو عام 2013 في قصر الاتحادية في القاهرة، قال لي إنه يعتمد على حليفين أساسيين في مصر، طبعا غير الشعب المصري وحركة الإخوان التي يؤمن بفكرها، وينتمي إليها عقائديا وتنظيميا، الأول هو السيد حمدين صباحي (ده ابننا) زعيم التيار الشعبي المصري، والثاني هو حزب النور السلفي الذي يعتبر أبرز حزب إسلامي بعد حركة الإخوان المسلمين في مصر. من المفارقة أن هذين الحليفين كانا أول من تخليا عن الرئيس مرسي وحركة الإخوان المسلمين، فقد انحاز حزب النور السلفي إلى الانقلاب العسكري الذي أطاح برئاسة الدكتور مرسي، بينما انضم السيد حمدين صباحي إلى جبهة الإنقاذ التي أيدت «ثورة 30 يونيو» وحرضت على الانقلاب ومهدت له. قضيت طوال يوم الثلاثاء في دراسة وتأمل ما تيسر من الأفكار والمواقف التي وردت في المقابلتين التلفزيونيتين للمرشحين الوحيدين في انتخابات الرئاسة المصرية، أي المشير عبد الفتاح السيسي والسيد حمدين صباحي، باحثا عن الفوارق الجوهرية بين برنامجيهما الانتخابيين فلم أجد إلا فوارق محدودة جدا. الأرضية الصلبة المشتركة بين المرشحين هي العداء المطلق لحركة الإخوان المسلمين والاتفاق على استئصالها، وإبعاد الجيش عن السياسة، والحفاظ على اتفاقات كامب ديفيد (صباحي قال إنه سيطالب بتعديلها لا إلغائها)، والانحياز إلى الفقراء وتحفيز الاقتصاد لخلق فرص عمل، والإبقاء على المعونة الأمريكية (صباحي طالب بإبقاء الشق العسكري منها فقط)، وربما ميز السيد صباحي نفسه عن «خصمه» السيسي بالإبقاء على الدعم للسلع الأساسية للفقراء وفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء. لاحظت في برنامج السيد صباحي أمرين ملفتين كان من الصعب علي المرور عليهما مرور الكرام في هذه العجالة: - الأول: التناقض الكبير في موقف السيد صباحي في ما يتعلق بالمصالحة الوطنية، فقد قال: «لا نريد إقصاء ولا استثناء، ولكن نريد طريق العدالة وإنهاء الانقسام والاستقطاب وصولا إلى وحدة مصر»، ولكنه ناقض نفسه كليا عندما أكمل بقوله: «إن حركة الإخوان المسلمين لا مستقبل لها في مصر.. والإخوان فشلوا في الحكم، فكرهم استبعاد وإقصاء واستعلاء، وحموا الإرهاب ودعموه؛ وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قال حازما: «سنحظر الإخوان كحزب وجماعة». والخلاف الحالي في مصر هو بين الإخوان وأنصارهم، من جهة، والمشير السيسي والتيار الليبرالي واليساري الداعم له إلى جانب قطاع من الشعب المصري يعارض حكم الإخوان، من جهة أخرى؛ - الأمر الثاني: عدم إعطاء البعد العربي الأهمية التي يستحقها في برنامجه بحكم ناصريته، واكتفائه بخطوط عريضة عمومية مثل «البحث عن كيان بديل لجامعة الدول العربية، وصياغة اتحاد عربي جديد يحافظ على استقلال الدول ويربطها بالدفاع المشترك والتنمية والتعليم والثقافة وإيجاد عملة عربية موحدة»، فبينما تعهد المشير السيسي بأنه لن يزور إسرائيل إلا بعد قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، لم يطرح السيد صباحي، أو هكذا اعتقد، مواقفه الصلبة التي طالما رددها تجاه القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي المحتلة، وانتقاداته لمبادرة السلام العربية، ومعارضته التطبيع وتأييده للمقاومة وإغلاق السفارة الإسرائيلية، ورفضه الحصار المفروض على قطاع غزة، وآمل أن أكون مخطئا في اعتقادي هذا. وكان لافتا أن المرشحين تنافسا في ما بينهما على الانتماء إلى إرث الزعيم جمال عبد الناصر وتبني سياساته ومواقفه، لإدراكهما أن هذا الإرث مازال محفورا في أذهان الشعب المصري حتى إن المشير السيسي قال في مقابلته التلفزيونية المطولة: «إن عبد الناصر ليس صورة معلقة على حوائط بيوت المصريين وإنما قلوبهم، ولكن الطروحات العروبية القوية الجامعة كانت ضعيفة وباهتة في برنامجي المرشحين باستثناء بعض الإشارات إلى تعزيز العلاقة بالدول الخليجية، باستثناء قطر التي اشترط صباحي توبتها، وغاب عن الخطابين المشروع النهضوي العربي الذي يجب أن ينافس أو يوازي المشاريع الإيرانية والتركية والإسرائيلية. ندرك جيدا أنه سباق أعد لحصان واحد هو المشير السيسي، ونتيجته معروفة قبل أن يبدأ، وكنا نتوقع أن يطرح السيد صباحي برنامجا مختلفا أكثر شراسة وثورية، لأنه ليس لديه ما يخسره في نهاية المطاف، اللهم إذا كان يتطلع إلى منصب قيادي في العهد الجديد، كنائب لرئيس الجمهورية، مثلا، أو رئيس للبرلمان، على اعتبار أن منصب رئيس الوزراء محجوز للسيد عمرو موسى مثلما تشير إلى ذلك معظم التكهنات، فالكثير من أنصاره وهم بالملايين يفضلونه معارضا صلبا شرسا لتقويم أي اعوجاج مستقبلي. الطريق الأسرع والأنجع لإخراج مصر من أزماتها هو طريق المصالحة الوطنية والتعايش في إطار عملية ديمقراطية صحيحة، فإذا كان الإخوان ارتكبوا خطيئة كبرى عنوانها الإقصاء والاستعلاء ورفض التعايش والمشاركة، مثلما يتهمهم خصومهم وأولهم السيد صباحي؛ وبعض هذه الاتهامات ينطوي على بعض الصحة، فإن هؤلاء الخصوم يمارسون الأخطاء والخطايا نفسها، ولكن دون أن يلومهم أو ينتقدهم أحد في ظل التعميم والتضليل الإعلاميين. حركة الإخوان المسلمين هي أحوج الجميع إلى إجراء مراجعات معمقة لكل سياسات المرحلة الماضية، والاعتراف بالأخطاء أولا، وصياغة سياسات بعيدة النظر تستوعب المتغيرات وتقبل بالآخر، حتى تتجنب الوقوع في الأخطاء نفسها، والحفاظ على الحد الأدنى من وجودها وتماسكها واختيار التحالفات الصحيحة بالتالي التي لا تتخلى عنها مع أول مفترق، واقرؤوا المقال من أوله. مصر، وبعد عشرين يوما، ستدخل مرحلة القبضة الحديدية تحت لافتة حفظ الأمن والاستقرار، وبدأت بوادر هذه المرحلة من خلال أحكام الإعدامات والحبس المؤبد لآلاف المعتقلين، وصحيح أن المشير السيسي ظهر في مقابلته التلفزيونية الماراثونية ببزة مدنية أنيقة، ولكنه لم يخلع البزة العسكرية مطلقا. الحكم على المرحلة الجديدة لن يستغرق وقتا طويلا؛ فإذا أصدر المشير «الرئيس» السيسي عفوا عن المعتقلين وألغى عقوبة الإعدام الصادرة في حق ألف منهم، وبدأ صفحة جديدة من التسامح، فهذا يعني أنه يريد تعايشا ومشاركة ووحدة ومصالحة وطنية، أما إذا أبقى على هذه الأحكام وصادق على تنفيذها ونصب المشانق فإن علينا أن نتوقع عودة الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ؛ الأمر الثاني هو الأكثر ترجيحا مثلما هو واضح من برنامج المشير السيسي وطروحاته في مقابلته التلفزيونية. عبد الباري عطوان