عبد الرحيم العلام تَطرحُ مسألة التعيينات الأخيرة في العديد من المؤسسات الحيوية مجموعة من الإشكالات الدستورية، فعلى الرغم من كون الدستور المغربي الجديد دخل حيّز التنفيذ لمدة تجاوزت السنتين، فإن بعض التعيينات جرت على ضوء الدستور القديم، كما أنها لم تتماشَ ومبادئ الدستور الجديد (تعيين رئيس للمجلس الأعلى للحسابات، تعيين رئيسة للمجلس الأعلى للاتصال السمعي-البصري، إلى جانب مجموعة من التعيينات الأخرى التي خصّت ما أسماه الدستور "مؤسسات الحكامة"). ولقد جرت كل تلك التعيينات في ظل غياب قوانين تنظيمية تُبيِّن طريقة تنظيم مؤسسات الحكامة، وتم الاقتصار على ما قرّره الدستور السابق. وحتى عند محاولة الحكومة تنظيم هذا الأمر وتأطيره بنصوص قانونية تقدّمت بها إلى البرلمان، فإن هذه المحاولة اتسمت بنوع من الخجل، فالمخطط التشريعي الذي كانت الحكومة قد أصدرته قبل سنة جعل العديد من مؤسسات الحكامة من اختصاص الملك، أما مشروع القانون التنظيمي الذي قدّمته الحكومة إلى البرلمان والذي يخص، من ضمن ما يخص، تعيين الأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (وليس الرئيس لأن الحكومة افترضت مسبقا أن ذلك من اختصاص الملك)، فقد اعتبره المجلس الدستوري، في قراره رقم: 14/932 م.د الصادر باسم الملك بتاريخ 30 يناير 2014، غير مطابق للدستور بدعوى أن الأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي يعتبر شخصية محورية في المجلس وينبغي أن يبقى بعيدا عن عمل الحكومة. ولم يقتصر قرار المجلس الدستوري على ذلك، وإنما راح يوضّح أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي، على غرار باقي مؤسّسات الحكامة، ينبغي أن يكون ضمن المؤسّسات البعيدة عن الحكومة والقريبة من الملك، وبالتالي لا ينبغي على هذا المجلس أن يخضع "لا للسلطة الرئاسية للحكومة ولا لوصايتها". وبرّر المجلس الدستوري ذلك على النحو التالي: "وحيث إن الدستور، فضلا عن اعتباره للمجالس والهيئات الثلاث المشار إليها مؤسسات مستقلة بحكم اندراجها ضمن الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة والتقنين طبقا لأحكام الفصل 159 منه، فإنه أسند إليها النهوض بمهام مقررة دستوريا تنطوي على صلاحيات الضبط أو التقنين أو الرقابة أو تتبع التنفيذ وفقا لأحكام فصوله 165 و166 و167، وهو ما يميزها عن باقي الهيئات والمجالس ذات الصلاحيات الاستشارية الواردة بدورها في الدستور". فالواضح أن قرار المجلس الدستوري أن مجرد تخصيص باب مستقل للمجلس الاقتصادي هو دليل على إبعاده عن مهام الحكومة. سنحاول في هذه المقالة أن نناقش، ليس فقط قرار المجلس الدستوري بخصوص عدم مطابقة رغبة الحكومة في تعيين رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي للدستور، وإنما أيضا مناقشة اعتبار المجلس الدستوري ومن قبله الديوان الملكي والحكومة (المخطط التشريعي) أن هيئات الحكامة ينبغي أن تكون من صلاحيات المؤسسة الملكية. إن التعيينات في العديد من مؤسسات الحكامة جرت بناء على الفصل 30 من الدستور القديم والذي ينص على أن "الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، وله حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق"؛ وكان من الطبيعي أن يأتي تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات، مثلا، متوافقا ومنطق هذا النص، إذ إن المجلس مؤسسة مدنية، ومن البديهي -حسب الدستور القديم- أن يعين الملك رئيسها. ولكن الدستور الحالي لم يختص الملكَ بالتعيين في جميع الوظائف المدنية، وإنما حدد ذلك بنصوص الدستور أو أحاله على النصوص التنظيمية، ولم يستثنِ من ذلك أيّة مؤسسة أو وظيفة؛ فبالرجوع إلى النص الدستوري نجده يقرّر في الفقرة الأخيرة من الفصل 49 أنه يتم "التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي، والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية، وتحدد بقانون تنظيمي لائحة هذه المؤسسات والمقاولات الاستراتيجية"، فالدستور حدد بالاسم المؤسسات التي يعين فيها الملك باقتراح من رئيس الحكومة أو أحال تحديد المؤسسات الاستراتيجية على القانون التنظيمي الذي يشرّعه البرلمان، فضلا عن الوظائف العسكرية والدينية التي مَنح الدستور حق التعيين فيها للملك بشكل متفرد ودون اقتراح من رئيس الحكومة كما هو منصوص عليه في الفصلين 41 و42 من الدستور. وبالعودة أيضا إلى القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، لا نجد من ضمن هذه المناصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات أو هيئات الحكامة، وبالتالي فإنه لا يوجد أي نص قانوني يمنع رئيس الحكومة من تعيين الأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ورؤساء مؤسسات الحكامة أو يعطي للملك الحق في تعيينهم دون الرجوع إلى المجلس الوزاري. فأن يتم اعتبار هذه المجالس "دستورية" ويستغل الفراغ القانوني لسحبها من مجال التعيين الذي يختص به رئيس المجلس الحكومي أو المجلس الوزاري باقتراح من رئيس الحكومة، فذلك محض اجتهاد صبّ في إضافة هذه الهيئات إلى مجمل المؤسسات التي أقرّ الدستور صراحة اختصاص الملك بتعيين رؤسائها، علاوة على المؤسسات التي حددها القانون التنظيمي (37 مؤسسة)، وهو اجتهاد وظّف سكوت الدستور عن جهة تعيين مؤسسات الحكامة، لصالح ضمِّها إلى لائحة المؤسسات المعيّنة من قِبل الملك، وهو ما يمكن انتقاده من عدة أوجه قانونية: أولا: إن الهيئات المنصوص عليها في الباب 12 المعنون ب"الحكامة الجيدة" والتي خصصت لها الفصول (161-162-163-164-165-166-167- 168-169-170) هي على التوالي: المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الوسيط، مجلس الجالية المغربية بالخارج، الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. والتي لم يحدّد الدستور طريقة تشكيلها ولا كيفية تعيين رئيسها، وإنما ترك ذلك للقانون، حيث نصّ الفصل 171 على أن "يحدد بقوانين تأليف وصلاحيات وتنظيم وقواعد تسيير المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الفصول من 160 إلى 170 من هذا الدستور، وكذا حالات التنافي عند الاقتضاء"، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نستنتج من خلاله، بأي حال من الأحوال، أن رؤساءها يعيّنون من قِبل الملك، بل إن تعيينهم من قبل رئيس الحكومة أو باقتراح منه هو ما يتوافق وروح الدستور بناء على مبدإ "ربط المسؤولية بالمحاسبة"؛ ثانيا: إن ارتكاز قرار المجلس الدستوري على مسألة استقلالية هيئات الحكامة الواردة في الفصل 159 من الدستور، وجعلها ضمن أبواب خاصة، لضمّها إلى المؤسسات المعيَّنة بمسؤولية الملك، لا يعدو (الارتكاز) أن يكون مجرد رغبة في إفراغ الدستور من محتواه والابتعاد عن مفهوم التنزيل الديمقراطي للدستور، ومخالفة للمبدإ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة؛ فالاستقلالية مطلوبة في جميع المؤسسات، سواء كان التعيين فيها من قِبل الملك أو من قِبل غيره، إذ إنها (الاستقلالية) لا تعني عدم التعيين من قبل رئيس الحكومة أو غيره، وإنما تفهم في المجال الإداري والسياسي بما هي قدرة على إنجاز الأعمال بغض النظر عن الضغوطات الخارجية أو الداخلية، واحترام القوانين المنظمة للمهمة الموكولة إلى الشخص أو إلى المؤسسة دون خضوع لجهة التعيين. أما إذا أراد البعض فهم استقلالية الهيئات بما هي استقلالية عن جهة التعيين فهذا ما لا يقبله عقل ولا قانون. فهل يعني هذا أن كل رئيس معين من قِبل الملك محّصن، بالضرورة، ضد أية ضغوط؟ أم إن كل رئيس مؤسسة معين من قبل رئيس الحكومة هو غير مستقل بالضرورة؟ فماذا نصنع حيال المؤسسات التي سيعيِّن مسؤوليها رئيس الحكومة كالجامعات والأكاديميات... فهل سنتهمها بعدم الاستقلالية؟ وماذا عن وزارة الداخلية، مثلا، التي ترأسها زعيم حزب سياسي -يمكن أن يقودها وزير سياسي حسب الدستور- ومع ذلك تناط بها مهمة السهر على أمن المغاربة بل والإشراف على العملية الانتخابية المسيسة بالطبيعة؟ ثالثا: إن عدم تمكين مؤسسة رئاسة الحكومة من حق تعيين رؤساء هيئات الحكامة، فضلا عن كونه يضرب في العمق المحاسبة السياسية عبر صناديق الاقتراع، فإنه يحرم هذه المؤسسة من أدوات تنفيذية من شأنها مساعدتها على القيام بالمهام الموكولة إليها؛ فمحاربة الرشوة ورعاية حقوق الإنسان والنهوض بالتعليم والإعلام والسهر على شؤون المهاجرين المغاربة... وغيرها من المهام، هي من مسؤولية الحكومة التي ستحاسب عليها عبر صناديق الاقتراع في أول انتخابات. من هنا، وجب احترام روح الدستور ونصوصه، والابتعاد عن المهام التنفيذية التي هي من صميم عمل الحكومة، وإلا فإنها غير مسؤولة، قانونيا وسياسيا، أمام الشعب عن أعمال تلك المؤسسات، وإنما تتحمل مسؤوليتها الجهة التي عينت رؤساءها. ومن ثمّ تصبح لدينا سلطة تنفيذية برأسين، حيث تَضيع فرصة المحاسبة وتتوزّع المسؤولية بين أكثر من طرف ويَتيهُ المواطن وتَفسد الإدارة ويعمُّ اليأس؛ وأما النتائج فلا داعي إلى التذكير بها، فقد أصبحت معروفة لدى الجميع. *باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة