اكتشفت الحضارات منذ أقدم العصور أهمية الفنون بصفة عامة في حياة الإنسان، حيث لا تكاد تخلو المساحات العمومية لمدنها القديمة من مسارح ودور الفن، إلى جانب المرافق الاجتماعية الأخرى، تأكيدا للدور الأساسي الذي تلعبه الفنون في تهذيب النفس البشرية والرقي بذوقها ولقدرتها على تشكيل سلوكات الإنسان الاجتماعية والفكرية. وللموسيقى بشكل خاص دور كبير في إثراء وجدان الإنسان ودعوته للتأمل والتفكير، لذا فإن هذا اللون من الفنون أخذ مكانه على مر العصور وحتى يومنا هذا. وانسجاما مع هذه التطلعات الروحية والنفسية، التي لا يكاد يخلو منها أي من المجتمعات البشرية ظهرت بالمغرب المجموعات الغنائية. في هذه الورقة قراءة لمسار واحدة منها. عبدالله شخمان ظهر بالمغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي نوع جديد من الغناء يحاكي ما كان سائدا بالغرب، تلك هي المجموعات الغنائية الشعبية. في تلك الفترة كانت وسائل الترفيه تتمثل في حلقات القصص الشعبية بالساحات العمومية، والسينما التي كانت تعرض في الغالب ثلاثة أنواع من الأفلام: «الويستيرن (رعاة البقر)» وأفلام الكراطي والأفلام الهندية، إلى جانب الأغاني الشرقية (أم كلثوم). ورغم انتشار هذه المجموعات بشكل سريع، فإن القليل منها استطاع أن يخط مساره في الساحة الفنية ك»ناس الغيوان» و»جيل جلالة» و»لمشاهب»، التي تميزت بأدائها وإشعاعها على المستويين الوطني والعالمي. جاءت، إذن، هذه المجموعات في ظروف اتسمت بوضع اجتماعي غير مستقر، واحتقان سياسي تجسد في المد والجزر بين المعارضة (اليسارية والإسلامية) والنظام، ففي فترة سنوات «الجمر» كانت السلطات تتوجس من أي انفلات في صفوف الجماهير، في ظل موجة المد الشيوعي الثوري، التي كانت تجتاح العالم وتعمل على استقطاب الشباب والطلبة الجامعيين..، وتطلع الشباب إلى وسيلة تلهب مشاعره وتستجيب لتطلعاته السياسية والاجتماعية، فوجد ضالته في مجموعة «لمشاهب» وبداية انتشارها بالحي المحمدي (كاريان سنطرال)، الذي يعتبر مهد «الظاهرة الغيوانية»، التي ظلت تنهل من أوضاع البؤس ومعاناة المحرومين من أبناء الوطن. ظهرت النواة الأولى للمجموعة سنة 1969 في روش نوار حيث أسس الشريف لمراني، برفقة شباب الحي المتأثر بالموسيقى الغربية، فرقة «صوت اليوم»، التي ستصبح فيما بعد «لمشاهب»، الذي اقترحه أحد أصدقاء الشريف، وهو اسم مشتق من الشهب التي ترجم الشياطين، وله دلالة كبيرة في الموروث الثقافي للجمهور. وقد كان التأثر ب«ناس الغيوان» (منذ سنة 1971) واضحا لتقاسمهما نفس الهموم؛ إلا أن مجموعة «لمشاهب» أبدعت موسيقى عصرية تنهل من الواقع، لكن بأسلوب جديد وغير مألوف. التأثر بالهيبيزم انطلقت المجموعة متأثرة بظاهرة «الهيبيزم»، ووظفت بشكل جيد آلات موسيقية متعددة لم تكن معروفة آنذاك مثل آلة الموندلين، التي تعتبرها المجموعة العضو السادس في الفرقة، وهي تختلف عن آلة الموندلين الجزائرية (8 أوتار مزدجة)، حيث أضاف إليها الفنان الشريف لمراني وترا تاسعا يعني «نوتة صول»، وأطلق عليها اسم «موندولين سيل» بهدف خلق توزيع صوتي بين أعضاء المجموعة ينسجم فيه الصوت الفخم والصوت الحاد. وقد احتاجت المجموعة، التي شكلت بمفردها ظاهرة خاصة، ما يقارب أربع سنوات قبل أن تتشكل نهائيا وتنطلق في نحت اسمها في عالم الفن والشهرة. وتعتبر سنة 1975 منعطفا في تاريخ المجموعة، حيث التصقت بذاكرة الجمهور، ليس فقط من خلال أعمالها، بل حتى من خلال شكلها ولباسها (رمز الشهب). ويعتبر الشريف لمراني مهندس ومصمم هذا النوع من اللباس بفضل حسه الفني، فهو من اقترح وضع وطريقة وقوف المجموعة على الخشبة على شكل نصف دائرة، وهي طريقة مدروسة تسمح لكل عضو فيها أن يرى زملاءه ، فالراحل محمد باطما كان غالبا في الوسط، لكنه متأخر، وبهذا الشكل يرى الجميع. هذا الشكل يضفي جمالية على المجموعة. وعن انضمام محمد باطما إلى المجموعة يقول الشريف لمراني: «بعد حصول المجموعة على صوت نسوي تمثله سعيدة بيروك (كانت ضمن فرقة لجواد المراكشية إلى جانب الأخوين الباهيري)، سجلوا معا أغنية «الخيالة» المعروفة ب«الصايك تالف والراكب خايف»، اقترح محمد البختي (الأب الروحي للمجموعة) ضم صوت قوي ورخيم يخلق التناغم داخل الفرقة، وكان المرشح هو محمد باطما القادم من مجموعة تكدة سنة 1973». كانت أول أغنية يستمع إليها الشريف من الوافد الجديد هي «أمانة»، التي لاقت نجاحا كبيرا، ويقول مطلعها: «بين الكديات كان الميعاد/ يستنى الليل وقدر الله، وسط الواد ابابا حسينا بالخديعة/ وما منا هراب ابابا وتمة كانت الفجيعة». وقد أعجب به لمراني لأنه كان مهذبا ورقيق الإحساس ورافقه في رحلته الفنية. كان الفنان محمد باطما يرغب في الالتحاق بجيل جلالة الواعدة، إلا أن شقيقه العربي باطما، مؤسس ناس الغيوان، كان يدرك بحدسه الفني أن مؤهلات محمد الصوتية الرفيعة ستعطي المجموعة دفعة قوية، لذلك لم يكن متحمسا لهذا الاختيار، فقدر له أن يكون «مشاهبيا». واستقدم البختي كذلك كلا من الشادلي امبارك ومحمد السوسدي بعد عودتهما من هولندا ضمن فرقة «الدقة»، فأصبحت الفرقة تضم خمسة أشخاص، وكانت الانطلاقة الفعلية سنة 1974 بأول أغنية للشادلي وهي رائعة «حب الرمان» التي يقول مطلعها: «هذا حب الرمان تساس فالخريف/ هذا عود عطشان وقرب يجيف». تم تعويض سعيدة بعد زواجها بمحمد باطما ومغادرتها المجموعة بمحمد حمادي، الذي كان ضمن فرقة «نواس الحمراء» المراكشية للمسرح، بينما التحق صديقه عبد الكريم القصبيجي بفرقة «جيل جلالة». وقد أعطى انضمام حمادي، الذي كان يعتبر صوته من أروع الأصوات التي عرفتها المجموعات الغنائية، إلى «لمشاهب» اللمسة الأخيرة التي منحت نفسا جديدا للمجموعة، التي تلقت حينذاك دعوات عديدة من دول أوربية، حيث حققت نجاحا باهرا لم تكن تتوقعه. ولأول مرة سيدخل الشريف المؤثرات الصوتية على آلة الموندولين وكل الأكسسوارات التي تحمل معنى كلمة «لمشاهب» من خلال الرسوم المستعملة. يقول الشريف إن مجموعة «لمشاهب» اعتمدت على مجهودها الذاتي من ناحية الكلام والألحان. في سنة 1974 كانت مناسبة أربعينية الراحل بوجمعة حيكور المعروف ب«بوجميع» من مجموعة ناس «الغيوان» وعازف «الدعدع». التقت المجموعات الثلاث الخالدة (ناس الغيوان، جيل جلالة ولمشاهب) فنظمت، في جو من التكافل والتضامن والحب، سهرة فنية بالمسرح البلدي بالدار البيضاء خصص ريعها لعائلة الفقيد، وساهمت مجموعة «لمشاهب» بمرثية للشادلي بعنوان «هذا الشي مكتوب»: هذا الشي مكتوب والآجال وفات/ ملك الله عظيم بالواجب يحكم/ رفيق الشبان مات على صفحات خلانا ومشى والقلب يخمم.. استمرت المجموعة في نشاطها الفني، وكان ألبومها الثاني «وعدي يا وعدي» لمحمد السوسدي و»غارو منا» للشادلي ورائعة «فلسطين» للراحل محمد باطما، حيث شاركت بها المجموعة في مؤتمر الأممية الاشتراكية بموسكو، وغنتها في حضرة عدد من قادة العالم، فأعجب بها كثيرا الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي عبر عن عميق تأثره بما سمع، وأهديت له نسخة منها. صارت المجموعة تصدر كل ستة أشهر ألبوما جديدا، متبوئة الرتبة الأولى في الإنتاج الفني على المستوى الوطني. وفي سنة 1978 كانت المجموعة في قمة الشهرة والمجد، حيث أحيت سهرات بدول أوربية كثيرة (فرنسا،هولندا...). كانت «لمشاهب» في تلك الفترة الذهبية من الأصوات التي التزمت بمقت الإمبريالية الاستعمارية، كما أخذت على عاتقها رفع الشعارات المدافعة عن الدول العربية، والسلم والتعايش من خلال أغاني «فلسطين» و»خليلي» (أو «رسامي») و«مجمع العرب». في تلك الفترة بلغ الاحتقان السياسي أوجه، فأصبحت بعض أغاني «لمشاهب» مثل «كولوا يا أهلي»، التي تقول: «كولوا يا أهلي لواصي علينا راه الحالة مقهورة/ والدنيا فايت كوكب من لفلاك؛ خبروه باللي جاري رحنا عيينا/ حتى تبان الصورة مبشورة..، و«يوم جاك»، و«داويني»، التي تقول: «داويني كان ريت للعذاب سباب/ كل ما نقول عييت عاد بديت فالعذاب؛ حطوني وسط لحصيدة نشالي يا بابا/ يعلم الله في المصيدة لقلوب الكذابة؛ كيف نارهم تكدينا ظلموا فين غادين بنا/ ....... ، والعفو يا بابا واش الحق يزول لقلوب الكذابة نساونا في المعقول واحيدوس...» من الأناشيد التي يرددها الطلبة في احتجاجاتهم ضد الأوضاع المزرية، حيث كان يحلو لبعضهم استبدال كلمة «واحيدوس» ب»واحيدوه»؟ وقد تسببت هذه الأغنية وغيرها في ملاحقات كثيرة من طرف الأجهزة الأمنية بسبب التأويلات والحمولات السياسية لتفريغ شحنات الغضب وتصريف المواقف السياسية!. كما تعرضت المجموعة للحصار فقررت الاستقرار بأوربا واستمرت مشرقة بإبداعاتها وانفتاحها على الجمهور داخل المغرب وخارجه، بفعل أدائها المتميز ووجود نوع من التقاطع بين أفرادها؛ كصوت الزجال محمد باطما، القادم من الشاوية المعروفة بالعيطة المرساوية، وصوت محمد السوسدي، المتحدر من جبال الأطلس المتميزة بعذوبة وقوة أصواتها والمولع بالأغاني الهندية (دوسني)، والذي قال في أحد برامج مساء الفن، منتقدا بعض الأذواق الفنية، التي وصفها بالمتعفنة، إن رسالة لمشاهب هي تقديم الذوق السليم للجمهور بكلمات وألحان سليمة. إضافة إلى فارس الكلمة امبارك الشادلي، الآتي من تخوم الصحراء حيث دفء الصوت وعمق الكلمة، وحمادي المولع بملحون مراكش، وكذا مايسترو المجموعة، المتمرس على الطرب الغرناطي بحكم إقامته فترة بوهران وعشقه للموسيقى الغربية خلال إقامته بحي «بلفيدير» البيضاوي، الذي كان يعتبر حيا فرنسيا. إلا أن سنة 1983 كانت فارقة في تاريخ المجموعة حيث تسرب الخلاف إلى أفرادها، بعد سنوات من التفاهم والمشاركة في مهرجانات عالمية كبرى لتجاوبها مع تطلعات الشباب المتعطش للتجديد، فانقسمت المجموعة إلى فرقتين: الأولى ضمت باطما والسوسدي وحمادي، وكانت تغني باسم «لمشاهب»، والثانية كانت تضم الشريف والشادلي، اللذين التحقت بهما عناصر من «تكدة» و«السهام». وقد خاضت الفرقة تجربة مع فرقة ألمانية، لكنها لم تعمر طويلا، فاضطر الشريف إلى السفر إلى تونس، التي قضى بها عشر سنوات، قبل أن يعود إلى المغرب. الانتفتاح على العالم تميزت المجموعة بانفتاحها على باقي ثقافات العالم، وبحثها في مجالات موسيقية أخرى دون الانسلاخ عن الهوية والتفريط في كنوز التراث المغربي. ولم يمهل القدر المجموعة بعد التئامها، إذ خطف اثنين من مؤسسيها: محمد باطما (سنة 2001)، صاحب الكلمة الهادفة والصوت الشجي ومبدع رائعة «خليلي» و«يا شرع»، والشريف لمراني (سنة 2004)، العازف الاستثنائي الذي أبهر الجميع بطريقة عزفه وتوزيعه الموسيقي الناجح والمتناسق. وقد خلف رحيل هذين العملاقين فراغا كبيرا لم تستطع المجموعة ملأه، فهما من وهب الحياة ل«لمشاهب» من خلال الكلمات النافذة والألحان الخالدة. وقد أسر لي أحد عشاق المجموعة خلال تجاذبنا أطراف الحديث، قبل انطلاق السهرة التي أحيتها المجموعة بسينما «بلاص» بالقنيطرة سنة 2002، (حضرها الشريف وحمادي فقط برفقة أعضاء آخرين)، بأنه عندما يصدر ألبوم جديد للمجموعة يكون ذلك اليوم عيدا بالنسبة له لشدة تعلقه وعشقه لها، وهكذا كان حال كثير من عشاق لمشاهب داخل الوطن وخارجه. في سنة 1997 سترزأ الساحة الفنية في أحد أعمدة ومؤسسي مجموعة «ناس الغيوان» العربي باطما، وقدمت «لمشاهب» في حق هذا الرجل الكبير مرثية تحت عنوان «خو صاحبي» من تأليف السوسدي حيث تقول: «يا راحل فحمى الله/ الله معاك يا ولد أمي وبويا ويا صاحبي وخويا» وكان يردد هذا الموال شقيقه محمد باطما. وفي المقطع الثاني يردد السوسدي: «الله عليك الله يا خو صاحبي يا اللي شبيه خويا/ عليك رحمة الله كنت مشاهبي وانت غواني غزا حبابك عزويا». لم تكن «لمشاهب» لتصل إلى هذا المجد دون أناس ضحوا كثيرا. يقول الشادلي في كتابه «حب الرمان» إن من نكران الجميل والعقوق التنكر لما أسداه الصديق محمد البختي لإنجاح تجربة «لمشاهب»، إذ قدم لها مجموعة من الخدمات التي تظل المجموعة مدينة له بها. انفراط عقد المجموعة وقد شكل رحيل محمد السوسدي سنة 2012 انفراط عقد «لمشاهب»، بعد فقدها ثلاثة أعمدة أساسية، مما حال دون تحقيق حلم المجموعة (إضافة إلى الشهرة والمجد) بالوقوف على خشبة المسرح لتمثيل أمجادها وإخراج فيلم سينمائي عن مسيرة «لمشاهب» يحمل عنوان «حب الرمان» (حسب الشادلي). إن السر في عشق المغاربة ومحبي مجموعة «لمشاهب» يكمن في نضالها وكون أغانيها كانت قريبة من وجدان وهموم الطبقات الشعبية ك«الغادي بعيد» و«الليل» و«داويني» و«يا لطيف» و«الحصلة» و«حب الرمان» و«الوصية»: «لسلاف خلاو وصية أمانة لجيال ليوم/ حكاو مسايل هي وصلت فزمان المعلوم، دابا تشوف وتعذرني ودابا تشوف/ دابا تشوف الزمان الماجي ودابا تشوف»، التي كانت المجموعة تتحسر من خلالها على واقع وحال الشباب، حيث يقول أحد مقاطعها (يردده السوسدي): «الشباب اللي نديرو فكتافي أويلي جلاوه بالتخدير/ ضاع وقت بق متلافي من لعلو سقط فالبير»، ورائعة «بغيت بلادي»، التي كانت أقرب إلى قلب الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان إضافة إلى حنكته السياسية، يمتلك حسا فنيا مرهفا ودراية بضبط الإيقاعات الموسيقية، فطلب من المجموعة في مناسبة بقصر الصخيرات إعادة الأغنية أكثر من ست مرات، وفي الأخير أخذ نسخة من التسجيل واحتفظ بها. يقول الراحل محمد السوسدي في أحد لقاءاته الصحفية (أسبوعية الحياة المغربية): إن مجموعة «لمشاهب» كانت بفضل حسها الفني تستشرف المستقبل، وقد تكون تنبأت بالربيع العربي منذ سنة 1977 مع أغنية «مجمع العرب»، التي دعت إلى الثورة والنهوض بالأمة، وهي تنادي: يا مجمع لعرب نوضوا تقلعوا/ سفن العجم فالبحور دارت قيامة، تيقولوا لعد لعرب تزلعوا مركبهم مكسور ما صابو علما. وحسب السوسدي، فإن الملك الراحل الحسن الثاني عقب على هذا المقطع بالذات بفطنته ونباهته السياسية، وقال له: «ماشي ما صابوا علما، بل ما صابوا زعما». تركت مجموعة «لمشاهب» الأسطورية تراثا فنيا كبيرا وغنيا من خلال روائعها التي أطربت الجماهير المغربية لمدة فاقت ثلاثة عقود، والتي من دون شك، ستخلد اسمها على مر التاريخ الفني. * أستاذ باحث