محمد السعيد ادريس ما بين الوفدين السوريين الحكومي والمعارض المشاركين في «مؤتمر جنيف - 2» ليس مجرد فجوة هائلة من عدم الثقة توحي بصعوبة، إن لم يكن استحالة توصلهما إلى توافق حول المدخل الأنسب للتوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة السورية، بل هناك أيضا فجوة متسعة من تعارض المطالب وتناقض التوقعات. إضافة إلى ذلك، فإن الخلافات التي برزت بين راعيي المؤتمر، الولاياتالمتحدةوروسيا، منذ سحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعوة إيران إلى المشاركة في المؤتمر، تضاعفت في الجلسة الأولى التي عقدت في مدينة مونترو السويسرية بين وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرجي لافروف، وكانت النتيجة هي مغادرة لافروف المؤتمر وسويسرا كلها ومعه الوفد الروسي وعاد إلى بلاده. ولعل هذا ما حفّز وليد المعلم، وزير خارجية سوريا، ليهدد هو الآخر بمغادرة المؤتمر. المعلّم أخبر المبعوث الدولي الخاص بسوريا الأخضر الإبراهيمي بذلك يوم الجمعة الفائت (24 يناير الجاري) «إذا لم تكن هناك جدية من الطرف الآخر (المعارض) على مستوى المحادثات..». تهديد المعلم بالانسحاب من المؤتمر جاء، أيضا، في أعقاب عدم عقد أول اجتماع مباشر بين الوفدين السوريين الحكومي والمعارض، حيث حمَّل وزير الإعلام السوري عمران الزغبي وفد المعارضة مسؤولية إلغاء الاجتماع. من هنا يجدر طرح السؤال: ماذا لو نفذ الوفد الحكومي تهديداته بالانسحاب؟ هل يدري أنه سوف يحمَّل مسؤولية إفشال المؤتمر وأنه من سيدفع ثمن ذلك؟ وهل يدري أن الثمن يمكن أن يكون تراجع الأطراف المعنية (حضرت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر يوم الأربعاء 22 يناير الجاري وفودٌ من 39 دولة، إضافة إلى الوفدين السوريين ووفدي المنظمة الدولية وجامعة الدول العربية) عن خيار الحل السياسي والعودة مجددا للاحتكام إلى الحل العسكري؟ السؤال مهم، لأن وفد المعارضة ذهب إلى مونترو اضطراريا وبضغوط من الأطراف الداعمة كي لا تتحمل المعارضة مسؤولية إفشال المؤتمر، مما يعني أن المعارضة ومن يدعمها يتحسّبون جميعا لتبعات فشل المؤتمر، وأن هناك تصورات سوداوية لهذا الفشل، ناهيك عن وجود رؤية واضحة عند المعارضة والأطراف الداعمة الدولية والإقليمية والعربية لهدف محدد وشديد الوضوح هو تنفيذ النص الحرفي لمؤتمر «جنيف - 1» وهو «تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تكون لها السيطرة على الجيش وبقية مؤسسات الدولة»، وأن يعقب ذلك «حوار وطني ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات»، حسب نص كلمة الأمين العام للأمم المتحدة، أو أن يفرض المؤتمر على الوفد الحكومي «توقيع وثيقة «جنيف - 1»» من أجل نقل صلاحيات الأسد إلى حكومة انتقالية، حسب كلمة أحمد الجربا، رئيس وفد المعارضة في المؤتمر، أو على الأقل «تشكيل حكومة انتقالية في سوريا بصلاحيات كاملة دون التطرق إلى مصير الرئيس الأسد حسب نص وثيقة «جنيف - 1». المعارضة السورية ذهبت إلى «جنيف - 2» وهي طامحة إلى ذلك، لكنها تدرك أنها باتت عاجزة عن تحقيقه خارج مثل هذا المؤتمر، أي على أرض الواقع؛ فقوات المعارضة، وبالذات الجيش السوري الحر، لم تعد لها كلمة ميدانية، والحسم العسكري أضحى بين القوات الحكومية والمتشددين التكفيريين حسب توصيف النظام، أي أن المعارضة ذهبت إلى مونترو لحضور «جنيف - 2» وهي ليس لديها ما تخسره. على العكس من النظام الذي يعي مسبقا أن المؤتمر خسارة هائلة بالنسبة إليه، فما تقرر في «مؤتمر جنيف - 1» لم يكن طرفا فيه، وكذلك لم تكن إيران. ولعل هذا ما شجع إيران على رفض أي شروط مسبقة للمشاركة في مؤتمر «جنيف - 2»، وبالتحديد ما يتعلق ببند تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة تمتد إلى الجيش وأجهزة الاستخبارات، مما يعني تجميد دور الرئيس الأسد إن لم يكن تنحيته قبيل انتهاء موعد ولايته. النظام، الذي لم يوقّع على «بنود جنيف - 1»، لم يذهب إلى «مؤتمر جنيف - 2» ليلزم نفسه بما لم يسبق له الالتزام به، وكذلك فعلت إيران، لكن الجديد هو حرص روسيا على تفكيك بنود «اتفاق جنيف - 1» وطرح هدف آخر بديل للمؤتمر يجب أن يحظى بالأولوية، وهو محاربة الإرهاب الحادث في سوريا حسب كلمة سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي أراد أن يرد بشكل غير مباشر على دعوة جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، في كلمته خلال المؤتمر التي قال فيها إنه «لا مكان للأسد في المرحلة الانتقالية». كلمة لافروف كانت واضحة، حيث أكد أن هدف المؤتمر هو «النجاح في وضع حد للنزاع المأساوي في سوريا»، أي أنه أراد أن يفتح مجددا الحوار حول هدف المؤتمر، مما يعني أنه ليس مع حصر هدف المؤتمر في «تشكيل الحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة دون أي دور للرئيس السوري». كما أنه ركز في كلمته على تشديد الهجوم على «المتطرفين القادمين من جميع أنحاء العالم الذين يزرعون الفوضى في سوريا، ويقوّضون الأسس الحضارية والديمقراطية للبلاد التي تشكّلت على مدى مئات السنين»، وكان لافروف قد انتقد بشدة سحب دعوة مشاركة إيران في المؤتمر وقال: «حين يقول الأمين العام للأمم المتحدة إنه اضطر إلى سحب دعوة إيران لأنها لا تشاطر مبادئ التسوية الواردة في بيان «جنيف - 1»، فإن هذا، في رأيي، عبارة ملتبسة»، وأوضح لافروف ما يعنيه بقوله: «هؤلاء الذين طالبوا بسحب دعوة إيران هم أنفسهم الذين يؤكدون أن تطبيق اتفاق جنيف يجب أن يؤدي إلى تغيير النظام في سوريا»، معتبرا أن ذلك «تفسير غير نزيه لما اتفق عليه في جنيف في يونيو 2012». الواضح من كلام لافروف أنه ليس مع إسقاط النظام في سوريا، وأن أي محاولة لفرض هذا الهدف تعتبر، في نظره، «خروجا عن اتفاق جنيف - 1» وأنه مع أن يبقى أفق التفاوض مفتوحا بين الوفدين السوريين. أما إيران التي لم تشارك في المؤتمر، فإنها هي الأخرى فضّلت الغياب عن المؤتمر على التورط في حل لا ترضى عنه، وتدرك جيدا أن النظام السوري لن يقبل به، لأن «اتفاق جنيف - 1» أجري دون مشاركة من النظام السوري، كما أن هذا الاتفاق لا يعكس، خصوصا بالنسبة إلى ما يتعلق بالدعوة إلى تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة، ما استجد على صعيد ميزان القوى داخل سوريا، وأنه من غير المتصوّر أن تعتقد المعارضة السورية أن في مقدورها أن تربح سياسيا ودبلوماسيا في «جنيف - 2» ما خسرته في مواجهاتها مع الجيش السوري ومع المنظمات التكفيرية أو الجهادية الأخرى على الأرض. يبقى موقف النظام -وكما عبّر عنه وليد المعلم، رئيس الوفد السوري، في مؤتمر مونترو الذي تولى في كلمته الرد على ما ورد في كلمة جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، وأحمد الجربا، رئيس وفد المعارضة، ومنه، أي من رد وليد المعلم- يتأكد أن الوفد الرسمي السوري في حلّ كامل من أن يلتزم بأي مطالب يرى أنها تمس السيادة الوطنية السورية أو أنها من اختصاص الشعب السوري الذي يرى أنه الحكم الأول والأخير في كل ما يعرض من رؤى ومن حلول، وما يعني ويؤكد أن المعلم ذهب إلى مونترو وهو على يقين بأنه ليس في المؤتمر من في مقدوره أن يلزم السلطة في سوريا بشيء لا ترضى عنه. وليد المعلم خاطب كيري بقوله: «لا أحد في العالم، سيد كيري، له الحق في إضفاء الشرعية أو عزلها أو منحها لرئيس أو حكومة أو دستور أو قانون أو أي شيء في سوريا إلا السوريين أنفسهم»، مؤكدا أن «هذا هو حقهم (السوريين) وواجبهم الدستوري، وما سيتم الاتفاق عليه هنا، مهما كان، سيخضع للاستفتاء الشعبي، فنحن مخوّلون هنا بنقل ما يريده الشعب لا بتقرير مصيره». كما خاطب وفد المعارضة بما ينزع عنهم صفة المواطنة والحق في تمثيل الشعب السوري، بقوله: «إن من يريد التحدث باسم الشعب السوري يجب ألا يكون خائنا للشعب»، و»من يريد أن يتحدث باسم الشعب السوري فليتفضل إلى سوريا». المواقف واضحة: روسياوإيران والسلطة السورية، الأطراف الثلاثة مع فتح أبواب التفاوض مجددا حول «جنيف - 1»، ولن يكون هناك التزام بما تقرر في ذلك المؤتمر أيا كانت تفسيراته، سواء كان تشكيل الحكومة المطلوبة، يعني الإبقاء على وجود سلطات الرئيس الأسد أو عدم وجودها، مما يعني أن النظام السوري ومن يدعمه ليس في نيتهم إنجاح «جنيف - 2»، وأن ما يعنيهم الآن هو ما بعد «جنيف - 2»: والسؤال موجه الآن إلى واشنطن والمعارضة السورية، والأطراف الأخرى الداعمة.