وجه الاستدلال بهذين المثالين هو أن نظرة السلفيين إلى المرأة ظلت أسيرة الأنماط التقليدية في الفقه الإسلامي القديم، الذي يطلق عليه البعض تسمية»الفقه البدوي» أو فقه البداوة. فالسلفيون يرون أن فكرة تحرير المرأة في العصر الحديث، أو منح بعض الحقوق الاجتماعية والسياسية لها، شكل بداية الانحراف في الأمة الإسلامية عن الخط العام للدين، ويعتبرون أن أصل هذه المشكلة يعود إلى الاحتكاك بالغرب وتأثر بعض المسلمين به، أمثال رفاعة رافع الطهطاوي الذي ألف في بداية القرن الماضي كتابا سماه» »المرشد المعين للبنات والبنين»، حول تعليم المرأة وإشراكها في الحياة العامة، وقاسم أمين صاحب الكتابين الشهيرين»تحرير المرأة» و»المرأة الجديدة»، وأن بداية فك العلاقة بين المرأة والدين كانت من أربع شعب: الحجاب، مشاركة المرأة في الحياة العامة، تعدد الزوجات، والطلاق. أما المشاركة في الحياة العامة فقد كان التيار السلفي يتوسل بأدلة كثيرة من بينها حديثان رواهما البخاري في صحيحه. الحديث الأول عن ابن عباس، وفيه يقول:»لبثت سنة و أنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أهابه، فنزل يوما منزلا فدخل الأراك فلما خرج سألته فقال: عائشة و حفصة .. ثم قال: كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا، من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا». أما الحديث الثاني فقد رواه أبو بُكرة نفيع بن الحارث، قال:»لما بلغ النبيَ صلى الله عليه وسلم أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». ورغم أن التيار السلفي أعمل عددا من التحولات التي مست منظومته العقدية والفكرية خلال العقد الأخير، خاصة في بعض بلدان الخليج التي انتقل فيها التيار السلفي من العمل الدعوي إلى العمل السياسي عبر المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان، كما هو الحال في الكويت على سبيل المثال، مع ما جره ذلك استتباعا من تحولات تخص الموقف من الديمقراطية، إلا أن الموقف من المرأة ظل واحدا من الثوابت التي لا تقبل المساس بها. لقد بقيت قضية المرأة بمثابة الغرفة الخاصة في البيت التي لا تفتح في وجه الزوار، مما يفسر حالات الممانعة كلما تعلق الأمر بمطالب اجتماعية مهما كانت بساطتها، كما هو الأمر مع قضية السماح للنساء بسياقة السيارات في المملكة العربية السعودية مثلا، والتي تدل على أن الممانعة ناتجة بدرجة أساسية عن غلبة الثقافة المحافظة في المجتمع أكثر مما هي ناتجة عن موانع تجد أصلها في الدين. فالسلفيون يعتبرون كل ما له علاقة بالمرأة مرتبطا بشخصية الأمة الإسلامية وخصوصيتها وتميزها، كما يرون أن القضية النسائية هي المدخل الأول للتغريب والعلمنة وتقليد الغرب، وطالما أن القوانين المنتشرة في العالم الإسلامي هي قوانين أوروبية وأن قضية الأسرة والأحوال الشخصية هي الحصن المتبقي في الأمة، فإن المرأة بالنتيجة هي عنوان هذا الحصن الحصين الذي إذا سقط سقط معه باقي البناء. المرأة والتحول السلفي .. السلفية القتالية مع ظهور الجماعات الجهادية نفضل تسمية الجماعات القتالية عليها ذات العمق السلفي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ثم تنظيم القاعدة في منتصف التسعينيات، حدث تحول في الخط السلفي العام، وانفصل التيار الجديد عن التيار التقليدي. فقد قدم التيار السلفي الجديد، الذي سيسمى فيما بعد السلفية الجهادية، قراءة جديدة للمادة السلفية التقليدية التي تلقاها من آبائها المؤسسين. ومست هذه القراءة الجديدة الموقف من الأنظمة القائمة وسلطة الحاكم والموقف من المجتمع والمؤسسات السياسية. واختط هذا التيار لنفسه خطا جديدا يقوم على أساس الجمع بين الأسس النظرية التي قام عليها التيار السلفي التقليدي، مع إعادة إخراجها وفق آلية التأويل، وبين مهمة الجهاد المسلح من أجل التغيير. غير أن الموقف من قضية المرأة لدى تيار السلفية القتالية بقي ثابتا في مكانه، وفي هذه النقطة يمكن الحديث عن تناغم تام بين السلفية القتالية والسلفية التقليدية. فعلى مستوى القيم السياسية هناك اختلافات واضحة بين الاثنين، ولكن على مستوى القيم العائلية ظل التوافق قائما بينهما، وبقي هذا الركن المتعلق بالمرأة الوحيد الذي لم يلحقه تغيير بين كل الأركان التي قامت عليها السلفية التقليدية بالنسبة للسلفية القتالية. وفي بداية الألفية الثالثة، مع تنامي المد السلفي القتالي في الجزيرة العربية، أخذ التفكير في دور المرأة في العمليات القتالية يتخذ منحى جديا. ويعتبر يوسف العييري، أي أقطاب التيار السلفي القتالي الذي قتل في السعودية عام 2003 أول من فتح ملف إشراك المرأة في العمليات القتالية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. فقبل وفاته ببضع سنوات ألف كتابا بعنوان»دور النساء في جهاد الأعداء»، خصصه للحديث عن الأدوار المنوطة بالمرأة في جهاد الكفار والمرتدين والدفاع عن حوزة الدين. كتب العييري كتابه وهو يدرك الإرث التقليدي الذي يلتصق بأذهان السلفيين حول قضية المرأة، ويتفهم الدور الذي لعبه ذلك الإرث في تحويل المرأة إلى سلاح غير مستعمل، أخذا بعين الاعتبار المناحي الإيجابية في المرأة التي يمكن أن تفيد الجماعات القتالية، ومنها سهولة التحرك أمام الرقابة بسبب انتشار ثقافة الحشمة، وإمكانيات الولوج إلى فضاءات لا يلجها الرجال في المجتمعات المحافظة، والقدرة على الإقناع والتعبئة، وانتفاء الجرأة في التعرض للمرأة أو تفتيشها في تلك المجتمعات. ولذلك اعتبر العييري أن المرأة واحدة من معوقات العمل الجهادي ما لم يتم رفعه وتوظيفه بالطريقة التي تتيح إنجاح هذا العمل الجهادي. يرى العييري أن الآية التالية من سورة التوبة تتضمن الحديث عن جميع معوقات العمل الجهادي، وهي قوله تعالى:»قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين»، ويقول:»ونحن في هذه الورقات لن ندير البحث بالتفصيل على كل تلك الموانع والمعوقات، ولكننا سنكتفي بعائق وحيد نرى أن الأمة بحاجة إلى إزالته عاجلاً وقبل كل شيء، وهذا العائق هو المرأة المتمثلة بالأم أو الزوجة أو البنت أو الأخت، وهن جميعاً داخلات تحت آية المعوقات، وبحثنا لعائق المرأة أيضاً لن يكون بعيداً عنها بل إننا سنخاطبها في هذه الورقات ونخبرها أنها هي أحد العوائق الكبار أمام انتصار الإسلام وعزه، ونحن حينما نقول بأن المرأة أحد العوائق الكبار أمام انتصار الإسلام، يلزمنا أيضاً مفهوم المخالفة وهو أن المرأة هي أحد العوامل الرئيسة المؤثرة حين انتصار الإسلام شريطة أن تؤدي دورها بكل شجاعة وفداء». وقد كان لهذا الكتاب تأثير على سير تنظيم القاعدة، الذي أعلن في مارس 2003 عن اسم أول امرأة مستعدة لتنفيذ عملية تفجيرية تدعى «أم أسامة»، لكنه لم ينفذ أول عملية تفجيرية بطلتها امرأة إلا في عام 2005 بالعراق. وفي السنة التالية 2004 أصدر التنظيم أول مجلة موجهة للنساء تحت اسم»الخنساء»، ويحتمل أن تكون المجلة موجهة في البداية إلى نساء الجهاديين أتباع القاعدة الذين قتلوا أو الذين يوجدون رهن الاعتقال، لاستهدافهن هن في البداية باعتبارهن مَعينا متاحا للتنظيم، بسبب ارتباطهن بأقاربهن في نفس التنظيم، لأن اسم الخنساء يشير إلى اسم الشاعرة العربية الشهيرة التي عرفت بحزنها الطويل وقصائدها عن أخيها صخر الذي قتل في إحدى الحروب. وقد كان هذا التحول في الفكر السلفي القتالي أول تحول من نوعه داخل العقيدة السلفية، فقد أسقط المحظور الأول المتعلق بمبدأ الجهاد بالنسبة للمرأة. بيد أن هذا التحول من الموقف تجاه المرأة لم يأت بدافع إحداث تغيير في العقلية السلفية التقليدية حول العنصر النسوي، بقدر ما جاء كجزء فقط من الموقف العام من مسألة الجهاد. إن أحد التغييرات الأساسية التي أدخلتها السلفية القتالية أو الجهادية على أفكار السلفية التقليدية هي اعتبارها للجهاد فرض عين لا فرض كفاية، ومن تم فإن المرأة تصبح داخلة في هذا الإلزام. وقد كانت هذه تخريجة لدى السلفية القتالية مكنتها من التخلص من عدد من المآزق الفقهية. ففي الفقه الإسلامي لا يعتبر الجهاد جائزا في حق المرأة إلا في حالة الحرب، أي حالة تعرض الأمة لغزو أجنبي من عدو كافر، أما في غير تلك الحالة فإن الجهاد يكون فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن البعض الآخر، ومن باب أولى أنه يسقط عن المرأة والصبي. لكن السلفية القتالية حددت منطلقاتها العقدية وفق منهجية مغايرة، فهي تعتبر نفسها في حالة حرب ضد أنظمة كافرة، ومن هذا المنطلق فإن الجهاد لديها فرض عين تدخل في نطاقه المرأة. ويبدو أن هذه الاستراتيجية المتمثلة في المراهنة على المرأة من طرف تنظيم القاعدة لم تنجح بالشكل الذي كان مطلوبا، وفي عام 2008 اعترف أيمن الظواهري بأن تنظيم القاعدة لا يضم في صفوفه نساء، وأن دور النساء فيه يقتصر على دعم المقاتلين من أقاربهم داخل البيت. وخلاصة الأمر أن تعامل السلفية القتالية أو الجهادية مع موضوع المرأة ارتبط بالمراهنة عليها من أجل توظيفها في استراتيجيته القتالية ضد الأنظمة، وكان المدخل إلى التعامل مع قضية المرأة مدخلا جهاديا يغلب جانب الربح والخسارة في معاركه المسلحة، ويسعى من خلاله إلى تحقيق هدفين: الأول هو الحاجة إلى تجنيد أكبر عدد من المقاتلين في صفوفه لتنفيذ عمليات تفجيرية في عدد من المناطق، والثاني هو ضمان اختراق المجتمعات العربية المحافظة من خلال بوابة المرأة التي تظل الجنس الأقل شبهة.
المرأة وتحولات السلفية الجهادية والإصلاحية إذا كان تيار السلفية القتالية، في نسختها الممثلة بتنظيم القاعدة، قد ركز على دور المرأة باعتبارها عنصرا في ساحة القتال، فإن السلفية الإصلاحية والسلفية الجهادية قد ركزتا على نفس الدور في ساحة التدافع السياسي. بدأ هذا التحول أول الأمر مع موجات الاعتقال التي تلت تفجيرات الحادي عشر من شتنبر في عدد من البلدان العربية، وما أعقب ذلك من عمليات إرهابية وضعت التيار السلفي الجهادي على رأس المطلوبين أمنيا في العالم العربي. وقد تزامنت تلك الأحداث مع صدور كتاب يوسف العييري المشار إليه أعلاه، حول مشروعية مشاركة المرأة في العمليات الجهادية، وبالنظر إلى القرابة الفكرية بين تنظيم القاعدة والسلفية الجهادية كان من الطبيعي أن تنتقل النقاشات الجارية وسط التنظيم إلى دوائر السلفيين الجهاديين في مختلف أنحاء العالم العربي، خصوصا مع انتشار شبكة الأنترنت وسهولة الحصول على المعلومة ومتابعة مستجدات التفكير السلفي عبر العالم. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن تلك التطورات المذكورة أعلاه قد حركت المياه الراكدة للعقيدة السلفية، بحيث وجدت نفسها تطرح على بساط البحث والنقاش جملة من القضايا الجديدة التي طرأت، من بينها مثلا مشروعية التظاهر والاحتجاج، وجواز أو حِرمة الإضراب عن الطعام وهل هو قتل للنفس التي حرم الله، ومسألة الاحتماء بمنظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها للمطالبة بالحقوق أو التظلم، علما بأن السلفيين كانوا يعتبرونها صادرة عن الكفار ولا يجب التحاكم إليها، كما كان من بين تلك القضايا مشاركة المرأة في التظاهرات وخروجها من البيت لزيارة المعتقلين. وقد تعامل السلفيون الجهاديون مع مختلف هذه القضايا من باب فقه الضرورة، لأن الأوضاع الجديدة لم تعد تتيح لهم اختيارات متعددة. فلم يكن خروج المرأة للمشاركة في التظاهرات دعما للمعتقلين السلفيين نتاج تغيير مس مرتكزات الفكر السلفي التقليدي، بقدر ما كان استجابة لواقع ضاغط لا يوفر هامشا للحركة، واقع أسري جديد فرضه غياب الرجل والحاجة إلى أن تقوم المرأة مقامه، وواقع سياسي فرض حضور المرأة في المشهد العام للتذكير بمحنة المعتقلين السلفيين في وجه السلطة والإعلام، كما هو الأمر بالنسبة للمغرب. والمفارقة الأساسية التي تظهر للملاحظ هي أن هذا الحضور والمشاركة التي بدأت المرأة السلفية تسجلها على مستوى الشارع العام في الفترات الأخيرة، لم يواكبها تطور ملموس على مستوى الأدبيات السلفية الخاصة بالعنصر النسائي، والتي لا تزال غارقة في الأنماط التقليدية. هناك من جانب تحول في الواقع الاجتماعي للمرأة السلفية، لكن في المقابل هناك جمود في الواقع الثقافي تجاه هذه المسألة. ويعود سبب هذا التناقض في نظرنا إلى كون الأدوار الجديدة التي انخرطت فيها المرأة السلفية حصلت بطريقة مفاجئة وغير متوقعة، ولم يسبقها تنظير مسبق. فقد حصل هذا التحول في الواقع العملي، وذلك خلافا للتيار الإخواني الذي حصل لديه التحول في قضية المرأة انطلاقا من التفكير النظري عبر عقود من الجدل والنقاش، سواء بداخله أو فيما بينه وبين خصومه، مما أعطى نوعا من التراكم لديه فيما يتعلق بهذا الموضوع. وتمثل السلفية المصرية حالة نموذجية لمسألة التنازع بين مبدأ الضرورة ومبدأ الاختيار المبدئي أو التعامل الاجتهادي مع قضية المرأة لدى التيار السلفي عموما. فبالرغم من أن حزب النور السلفي مثلا حسم في العديد من محاور النقاش حول المشاركة السياسية، وخاض الانتخابات التي أجريت عقب ثورة 25 يناير 2012، إلا أنه بقي أسير تلك الأنماط التقليدية في النظر إلى المرأة. فقد اعترف ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية، التي تعتبر حزب النور ذراعا سياسيا لها، أن ترشيح نساء في لوائح الحزب الانتخابية كان للضرورة، بسبب اشتراط قانون الانتخابات على الأحزاب السياسية ترشيح نساء ضمن قوائمها، وعندما رشح الحزب نساء وضع مكان صورهن ورودا بدل صورهن الحقيقية، خلافا للرجال، وهو ما كان مثار استياء عام في أوساط الحركات النسائية والأحزاب السياسية والرأي العام المصري.